ستظل القنبلة التي فجّرها عبدالحليم خدّام عشية رأس السنة، تتردد أصداؤها لفترة من الزمن. فالقنبلة «الفراغية»، التي ألقاها على رأس سورية، أعادت سورية إلى دائرة الاختناق من جديد. المسئول السوري الرفيع، الذي رسم السياسة السورية على مدار ثلاثين عاماً، وكان يقف في قلب دائرة صنع القرار، حاول أن يروّج لبضاعته القديمة بذم السوق الجديد، وكمواطنين عرب، لا يهمّنا غير حماية القطر السوري الشقيق وخروج الشعب العربي هناك من محنة الضغوط الغربية بأقلّ الخسائر الممكنة. من هنا يرتفع ألف سؤال وسؤال في وجه الوزير السابق ونائب رئيس الجمهورية، فالشعوب العربية لم تعد تتحمل مزيداً من حملات الاستغباء الرخيص. القفزة الفراغية الأولى حين ادعى خدّام انه يرى من واجبه أن يؤرّخ للمرحلة، «لتطّلع الأجيال والناس على الحقائق والوقائع الصحيحة»، ونحن نعرف مسبقاً انه لن يسرد وقائع موضوعية مقنعة، بمقدار ما سيهتم بتلميع صورته، وهذه هي تباشيرها: فهو «الداعية الأكبر للإصلاح»، وهو الذي حقّق لسورية «مكانة مرموقة في الساحتين العربية والدولية»، بل وهو الذي قدّم دراسةً عظيمةً لتطوير النظام السياسي والاقتصادي، إضافة إلى قضية الحريات والديمقراطية، كانت كفيلة بإنقاذها من هذه الأزمة. من حق السوريين اليوم أن يسخروا من هذا الكمّ الهائل من الادعاءات، الذي يصدر من الرجل الثاني في النظام لمدة ثلاثين عاماً. ومن حقّهم أن يتساءلوا عن سبب جرأته «الطارئة» في «الحديث» عن الفساد وهو بعيد في باريس، بينما هو نفسه تحوم حوله الكثير من الحكايات. وإذا اعتبر البعض تصريحات خدّام قنبلة أو زلزلة أو إعصاراً، فإن المتأمل في تقاطيع حديثه سيقف على حالة نموذجية من حالات انهيار النظام الرسمي العربي وتفسّخه من الداخل. فالرجل الذي قد تسهم تصريحاته في زيادة التضييق والتشديد على الشعب السوري، لما فيها من «توريط»، لا يتردّد من القول بالفم الملآن: «نعم، تركت سورية في الزمن الصعب، من أجل سورية»، فنحن أمام نموذج فظيع من نماذج التحلّل والتفسّخ الداخلي للأنظمة الهرمة، ولا ندري كيف ستكون كتابته لمذكّراته بهذا المنحى التآمري المكشوف، خدمةً لسورية، بل كيف يمنّي نفسه بالعودة إلى دمشق؟ وكيف يمكن أن يقابل الناس في الشارع؟ وهل يصدّق المواطن السوري ان سورية في قلب خدام وعقله، بينما يرى أثر فأسه على رأس الوطن؟ قد يسلّم الكثيرون لخدّام بالمهارة السياسية، والقدرة على رسم السياسة الخارجية لبلاده على مدى ثلاثة عقود صعبة، حفظ خلالها مصالحها بدرجة من الدرجات، وجعل لها دوراً محورياً في الشرق الأوسط، ولكن هذا لا يبرّر الانتقال إلى معسكر معاد يخطّط للإيقاع بالبلد في قبضة المتربصين. قنبلة خدّام الفراغية، أثارت أيضاً تساؤلات كثيرة عن شخصيته، خصوصاً ان موقفه أعطى انطباعاً لدى الكثيرين بأنه انتهازي من النوع الرديء، فلما لمح القطار الاميركي يتجه صوب دمشق، حاول أن يحجز له مقعداً فيه، في ظل خيارات محدودة أمام المشروع الاميركي، بين غياب المعارضة التي طال قمعها، وبين جماعات الإسلام السياسي التي احترفت العنف والقتل والتفجير والإرهاب. الرجل الواثق جداً من نفسه بفعل ما بحوزته من معلومات، طالب بشّار الأسد بـ «قطع رقبة المجرم رستم غزالة» كما قال، وكشف ان غزالة أخذ من بنك المدينة 35 مليون دولار، وان الملف وصل إلى الرئيس بشار، الذي كان على علم بأنه حرامي «عامل قصر وسوق في ضيعته»، ولكن مادام من رجال السلطة فلا تثريب عليه، ثم إن كون غزالة حرامياً لم يكن سراً جديداً يكشفه خدّام، فقد كانت الرائحة منتشرة من قبل، إلى درجة أن المحقق الدولي ديتليف ميليس من أولّ ما دسّ أنفه في التحقيق، تفاجأ باكتشاف 20 مليون دولار في حسابه في البنك، استطاع جمعها خلال عامين فقط من عمله في لبنان، وهو ما يدلّ على كفاءته الاقتصادية ومهارته المالية وقدرته العالية على جمع الأموال في أقصر الطرق وأسهلها، تمنّينا على قناة «العربية»، ومن باب الأمانة المهنية والعدل والإنصاف، لو سألت خدّام عن رصيده في البنك، وهو الذي أدار الملف اللبناني ربع قرن، كان اللبنانيون خلاله يعودون إليه في تشكيل وزاراتهم وحلّ خلافاتهم، وتسمية مرشّحي رؤسائهم الثلاثة. فلكي يصدّقه الشعب العربي، عليه أن يعترف بما يمتلك من ضياع وقصور وأموال مكدّسة، كانت هي السبب لأن يعيش نصف السوريين تحت خط الفقر، ونصفهم بموازاته كما قال. قلبنا على سورية، التي تستحق طبقةً سياسيةً حاكمةً أفضل، وحياةً سياسيةً وبرلماناً أفضل، وحياةً حرّةً كريمةً ليخرج الشعب السوري من المأزق الذي وضعه فيه المغامرون المستعدون لحرق البلاد وذبح العباد من أجل كرسيّ صغير.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1215 - الإثنين 02 يناير 2006م الموافق 02 ذي الحجة 1426هـ