في آخر خُطَبِه الجمعة الماضي، فتح الرئيس اليمني علي عبدالله صالح على نفسه شلالاً هادراً من الانتقادات، بدأ يتدفق من ساحات الاعتصام بالمدن الكبرى، ولم ينته عند صفحات «التويتر» و «الفيسبوك».
في هذا الخطاب التاريخي أمام جمعٍ من أنصاره، انتقد الرئيس صالح «الاختلاط بين الجنسين الذي لا يقره شرعٌ ولا دين»! ودعا إلى «منع الاختلاط المخالف للشريعة»! وكرّرها ثلاثاً: «حرامٌ، حرامٌ، حرام»!
في تصريحاته وخطبه الماضية، كانت ردود الفعل تقتصر على المعتصمين والأحزاب السياسية المعارضة المطالبة برحيله من الحكم. أما هذه المرة فانهالت عليه الانتقادات من كل حدب وصوب، تنم عن موجة شديدة من الغضب والسخرية والاستياء. وشملت ردود الأفعال فئات اجتماعية واسعة، بعضهم من الموالين للرئيس.
في الأسابيع الأخيرة كان الرئيس يتهم معارضيه بالفوضى ومخالفة القانون، وأحياناً بالعمالة والولاء للخارج، وفي قمة التسخين اتهمهم بـ «السراق وقطاع الطرق». ومع ذلك تقبّل الجمهور اليمني هذه الأوصاف المقذعة بروح رياضية عالية، ولو من باب المناكفات السياسية المعتادة! أما حين تكلّم بهذه الصورة الملتوية عن الاختلاط، فقد تحوّلت القضية إلى إهانة للمرأة اليمنية، التي نزلت للشوارع العامة جنباً إلى جنب أخيها الرجل، لتطالب بالإصلاح والتغيير.
كان الخطأ كبيراً بلاشك، بحيث لا يمكن الدفاع عنه بأي صورة من الصور، حتى التلفزيون اليمني الرسمي اقتطع هذا الجزء المثير من الخطبة عند تقديمها في نشرات الأخبار التالية. ومع ذلك ظلت ردود الفعل عنيفةً، والانتقادات صارخة، والتعليقات في مواقع التواصل الاجتماعي لاذعة.
في أول ردود الفعل، تدفقت أعدادٌ كبيرةٌ من النساء على الميادين العامة في ست عشرة محافظة ومدينة يمنية، للمشاركة في «مسيرات الشرف والكرامة»، والتنديد بهذه الخطبة. واتجهت إحدى هذه المسيرات النسائية إلى مكتب النائب العام، لرفع دعوى قضائية ضد الرئيس لإساءته للمرأة اليمنية. وطالبت إحدى المعتصمات برد الاعتبار لنساء اليمن لما جاء في الخطاب من إساءة وانتهاك لحقوقها.
الجميع يتابع أخبار اليمن الشقيق، ويشاهد بعينيه النساء بلباسهن التقليدي المحتشم جداً، فغالبيتهن العظمى منقبات، ولا غرابة أن يكون غضبهن عارماً، إذ ذكّرت إحداهن الرئيس بحديثه في الأيام الخوالي عن «النساء شقائق الرجال»، ودعوته إلى رفع مشاركة المرأة في البرلمان إلى 40 مقعداً، بدل مقعد واحد حالياً... مع ما يعنيه ذلك من اختلاط و «فجور»!
الناشطات كان لهن دورٌ كبيرٌ في تحريك القضية، إذ قالت إحداهن إن «ما تضمنه الخطاب من انتقاد للاختلاط بين الجنسين يمثل انعكاساً لحالة الارتباك والاضطراب التي يعاني منها الرئيس بسبب تصاعد المطالبات الشعبية بنهاية حكمه الفردي». ناشطةٌ أخرى قالت والدموع تترقرق في عينيها: «من المؤسف أن تكون أعراض بنات الناس ورقة يستخدمها الرئيس لإطالة بقائه في الحكم».
رئيسة منتدى الشقائق لحقوق الإنسان وصفته بـ «الخطاب المسف»، لأنه اعتبر الاختلاط عملاً مشيناً ومحرّماً دينياً، بينما يحشد النساء لمناصرته في مسيرات مختلطة مع الرجال! وأوضحت أن المرأة في العمل الثوري الطاهر بجوار شقيقها الرجل إنما تشارك في صناعة اللحظة التاريخية، وهي تختلط مع الرجل في السوق والعمل وكافة مناحي الحياة. وأكّدت أن النساء «سيواصلن الخروج في مسيرات سلمية بعد ذلك الخطاب غير المسئول».
لم يقتصر التنديد على المنظمات النسائية ومؤسسات المجتمع المدني، بل شمل الكثير من الفعاليات السياسية والتجمعات القبلية. لجنة الحوار الوطني المعارِضة وصفت الخطاب بأنه «إفلاس أخلاقي». واعتبر «مجلس تحالف قبائل مأرب والجوف» تعريض الرئيس بالمعتصمات إهانةً للشعب اليمني وخطأ فادحاً يستوجب الاعتذار للشعب فوراً وعلناً. بل إن المئات من قبيلة همدان الموالية استفزهم الخطاب فأعلنوا التحاقهم بالثورة، حيث وصفه أحد مشايخ القبيلة بأنه خطاب بذيء.
إنها السياسة، فالرئيس الذي راهن على تخويف الغرب من «القاعدة» ردحاً من الزمن، تحوّل في طرفة عين إلى داعية ديني يفتي بتحريم الاختلاط
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 3146 - الإثنين 18 أبريل 2011م الموافق 15 جمادى الأولى 1432هـ