على وقع الحوادث المتسارعة في لبنان والعراق ومناطق أخرى في الجوار الجغرافي القريب منا، يشهد الإنسان لغة جديدة لا تُخفي التعبير عن مكنونها ودواخلها بسلوكياتها التي تمارسها كعمل يومي دؤوب، سلوكيات تقبل لنفسها الارتماء في كل حضن إلا حضن الوطن، وتستجيب لكل نداء إلا صرخات الوطن، وتتبنى شعارات كل شيء إلا شعار الوطن. فهي ترفعه عالياً وتحفر بأعمالها أعمق الحفر لتطمره بتراب حقيقتها الباهتة ونواياها المبطنة.
ما يهمنا واقعاً وما تدفعنا الحوادث إلى التفكير به بشكل جاد وصادق هو تعميق الحب للوطن، وتأكيده كقاسم مشترك بين مختلف الفرقاء والمختلفين سواء في اللون أو اللسان أو العقيدة والمذهب.
إن غالبية بلداننا العربية تعيش واقع التعدد اعترفت به أم أنكرته، برز على إعلامها أم أخفته، أُحترم في واقعها أم نبذته. هو على كل حال واقع قائم ومعادلة مؤثرة، تؤثر بشكل سلبي إذا تحركت أو حركتها روح غير وطنية، وتؤثر أجمل أثر إيجابي إذا دفعها حب الوطن إلى العمل والعطاء والاصطفاف إلى جانبه، من هنا كانت الضرورة ملحة في ظرفنا الراهن لأن نستحضر الوطن بصدق ووضوح لا لبس فيهما، وأن يبد هذا الاستحضار من رجالات البلد وأصحاب الرأي والقرار ثم من جميع أطراف الفرقاء الذين ينعمون بخيرات الوطن، ويلبسون لباس الأمن والأمان فيه.
إننا بحاجة إلى الوطن الصالح الذي يشعر كل مواطن فيه بأن حقوقه ماثلة في الواقع، وحاضرة بحضوره أنى كان ومهما كان، ومحترمة لأنها تقدم له من دون تشفّع من أحد، أو التماس من جهة، أو غضاضة من هذا وذلك، ومن دون أن يُجرح أو يهان أو يقصى.
إن هذا الوطن هو الذي يفرض على مواطنيه حبه والرضا به والدفاع عنه، وبذلك يحضر في قلوبهم وأعمالهم ومواقفهم واستبسالهم إذا أُريد به سوء، سواء اتجه السوء من الخارج، أو حرّكته أيدي المكر من الداخل.
إن الخلل في هذا الشعور والذي لا ينتج من الفراغ، بل من خلال واقع ناطق ومتحرك له عناصره ومؤثراته هو الذي تسبب في غياب روح الوطن والمواطنة في العالم العربي.
لقد غاب الوطن عن مفرداتنا الدينية، إذ تصورناه دخيلاً عليها، وقرأناها مناقضة له وطاردة لمعناه السامي، وكأن المسلم لا وطن له ولا أرض تقله ولا تراب، لم نستطع التوفيق بين الوطن والدين ولم يجد المهتمون بهذا الشأن دافعاً يجعلهم يؤكدون هذا المعنى في النفوس ويعززونه في قناعات الناس، ويرسخونه في عقولهم.
إن الدين والوطن والعروبة والعالم كلها دوائر ينبغي أن تكون في حالة تفاعلية مع بعضها لتدعم كل دائرة ما يليها من الدوائر سعياً لانسجام الإنسان معها وتسيير حياته بطريقة ناجحة.
ومادمنا نتوافق على أن الدين هو الدائرة الأولى بالعناية من كل شيء فلابد من الاستفادة من تعاليمه ورؤاه وتوجيهاته في التعامل مع بقية الدوائر المحيطة بنا، أو التي نحن على تماس في التعامل معها شئنا ذلك أم تمنعنا عنه، فالعالم اليوم هو قرية صغيرة تتداخل أمورها مع بعضها، حتى إن القدرة على فرز الظواهر المؤثرة في بعضها بات ضرباً من المحال.
غياب الوطن عن مفرداتنا الدينية لم يعن حضوره في موادنا الدراسية بل مازلنا نتحسر على الوطن وحضوره في مناهجنا الدراسية، فالوطن في موادنا الدراسية ليس مفهوماً نعززه في النفوس ونكرسه في الوجدان بكل مداليله وتداعياته وحقوقه وواجباته، وأمنه وحمايته، بل هو أرقام عن مساحة الأرض وعدد السكان والمطارات وما يُصدّر من براميل النفط.
ولأن استعمالات كلمة الوطن غائبة، وتداعياتها غير حاضرة، وحدودها بالنسبة إلى الدوائر الأخرى غير واضحة. انفلتت مصر من دوائرها الإسلامية والعربية لتبرم سلامها مع الكيان الإسرائيلي الغاصب تحت شعار «مصر أولاً»، وتتعالى الأصوات في لبنان اليوم محاولة الهرب من العدو الإسرائيلي الجار تحت الشعار نفسه (لبنان أولاً)، وتنصل الأردن عن الكثير من مواقفه تحت شعار «الأردن أولاً» وفُتحت سفارات العدو الإسرائيلي في أكثر من بلد، لأن الكل اندفع متسابقاً باحثاً عن ليلاه تحت شعار «أولاً».
أعود إلى المادة الدراسية مؤكداً أن مادة التربية الوطنية في بلادنا العربية والإسلامية تحتاج إلى عناية فائقة، وإلى إعادة صوغ تراجع من خلالها الكثير من المداليل والمفاهيم والأوضاع الطارئة، من جهة أخرى يجب ألا تُختزل التربية الوطنية في مدارسنا بالدعايات الضيقة والثرثرة المملة في جزئيات القضايا وسفاسف الأمور، فالوطن لا يختصر ولا يحجم في أحد، بل ولا يقبل أن يقاس إلا بمقاسه المتسع لكل ما فيه وما عليه في راهنه، وبكل رجاله وتاريخه في ماضيه، وبتطلع جميع مكوناته لمستقبلة.
أخيراً، غاب الوطن حتى عن مكتباتنا التي تعج بآلاف الكتب وآلاف الدراسات التي لم يجذبها عنوان الوطن لينال حقه منها.
عرّج إلى أية مكتبة شئت أيها العربي لترى بنفسك أن كتب الطبخ فيها أضعاف مضاعفة عن الكتب التي تناولت مفهوم الوطن، بل سترى عن نبات «الثوم» عشرات الكتب، لكن مفردة الوطن لن تجدها بهذه العناية ولا بهذه الكفاية من الكتابات.
هل لأن الأوطان قد جارت على مفكريها فكرهوا الكتابة عنها؟ أم لأنها لا تستحق البحث والكتابة فهجروها ولم يكتبوا عنها؟ أم لأن هذه الكتابات لا يُرضى عنها عادة ولا تسلم من الرقابة؟ أم ماذا؟
إلى أن تأتي الإجابة سيحضر كل شيء وسيبقى الغائب الوحيد هو الوطن.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1271 - الإثنين 27 فبراير 2006م الموافق 28 محرم 1427هـ