العدد 1271 - الإثنين 27 فبراير 2006م الموافق 28 محرم 1427هـ

زعماء في (الحُبوس)

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

الحبوس كلمة عربية قحة يرددها اللبنانيون بشعبية وتعني السجن أو السجون، ولان الحديث عن لبنان في سيرورته الديمقراطية، وجهود الإدارة الأميركية في دفع الديمقراطية اللبنانية كي تصبح مثالا يحتذى في هذه المنطقة المعذبة بحروب الرموز، هنا تظهر المفارقة التي تعني كل متابع، فبين مفهوم الديمقراطية الذي يعني الحرية وعلى رأسها حرية الحركة للأشخاص والمواطنين، نرى على ارض الواقع انه حتى الزعماء في بلاد الديمقراطية اللبنانية، حركتهم مقيدة، بل ومشلولة. ولعل قاموس المنجد يقدم لنا معنى طريفا للحبوس يناسب السياق، «انها أحجار توضع في مجرى الماء لتحبسه من أجل أن يسقي الناس مواشيهم»! ويا لها من مفارقة.

لبنان به عدد من الزعماء، وفيه أيضا شكل من الديمقراطية، تلك حقيقة لا طائل من نكرانها. أما بعد ذلك فكل الأمور المشاهدة تستجلب العجب، كما يستجلب المعنى المتناقض لكلمة الحبوس.

ان معظم الزعامات اللبنانية هي «محبوسة» في مكان ما، وغير قادرة على التفاعل الحر والتجوال المفتوح بين مؤيديها. والأمثلة كثيرة، الشيخ سعد الحريري بقي خارج لبنان وقتا طويلا بعد الانتخابات الأخيرة، وكانت عودته شبه سرية عشية الاحتفال بالذكرى الأولى لاستشهاد والده الشهيد رفيق الحريري في منتصف فبراير/ شباط الجاري. كمال بيك جنبلاط شبه حبيس في المختارة، يطلق من هناك تعليقاته النارية على الوضع اللبناني، ولا يستطيع حتى أن يحضر الاجتماعات الرسمية في البرلمان اللبناني. سمير جعجع في بيته في الأرز، بعيدا عن الرؤية المباشرة، الرئيس اللبناني أميل لحود حبيس قصره في بعبدا، سليمان فرنجية لا يرى أو يشاهد في بيروت، ومن مكانه الآمن في زغرتا يطلق الاتهامات بعد الاتهامات إلى درجة تشبيه النائبة نائلة معوض بهيفاء وهبي! حتى الثنائي البطريرك صفير والسيدحسن نصرالله، يتحركان في لبنان (بلد الديمقراطية) بأكثر من حذر يشوبه القلق على أمنهم الشخصي، أما رئيس البرلمان نبيه بري، فإن سفره يعلن دائما إلى (مكان غير معروف)، ويستطيع المراقب أن يشير إلى أن عددا من الزعماء الآخرين في الصفوف الأخرى حتى الثانوية منها التي تحذر من أن تمر في شارع واحد مرتين في اليوم!

فأية ديمقراطية مبتغاة هنا في شرقنا المعذب إذا كان الزعماء لا يأمنون على حياتهم اليومية؟، هل هي الديمقراطية بالمراسلة والبقاء خلف أبواب مغلقة! أم هي الحبسة التي يصفها المنجد مرة أخرى أنها خلل في اللسان يعجز الإنسان عن النطق والإفصاح!

انها أسئلة طبيعية ومعقولة أيضا، فمن المفروض أن تقدم الديمقراطية العدل والأمن، وهي لا تفعل ذلك في شرقنا. لو نظر احد إلى شريط التصوير لجمهور الرابع عشر من مارس / آذار العام الماضي الذي تجمع في ساحة الحرية في بيروت، للاحظ أن المتحدثين يواجهون الجمهور من دون حجاب، ولو نظر إلى المتحدثين في الرابع عشر من فبراير الجاري، أي بعد سنة تقريبا وفي الساحة نفسها، لوجد أن المتحدثين يخاطبون الجمهور من وارء حجاب كثيف من الزجاج المضاد للرصاص، بل ان الإعلان عن حضور البعض إلى ساحة الاحتفال تم التكتم عليه حتى آخر لحظة.

ممارسة الديمقراطية في احد أهم معانيها أن تسير الزعامات آمنة بين جمهورها وفي عاصمة بلدها، يبدو أنها غير قابلة للتطبيق. لا بد من الإشارة هنا إلى أن الوضع اللبناني في هذا الظرف هو وضع غير طبيعي، فالخوف والانعزال والتدقيق في هوية الأشخاص القادمين للتحدث أو التشاور أو السلام على الزعيم، وسرية التنقل، قد تكون مبررة جزئيا، إلا أنها في العمق تستدعي المناقشة والتفكر. إذ تتوقف الحياة لأية عاصمة عربية حين يزورها «مسئول» فحركتها المرورية تتجمد، وتوقف مصالح الناس، حتى يمر موكب «الزعيم» بأمان.

فما هي مقاصد الديمقراطية التي تسعى الولايات المتحدة علنا إلى زرعها في منطقتنا، إذا لم يكن الأمن والعدالة متاحين للجميع، وهل العرب قادرون على صنع ديمقراطية بتلك المواصفات التي تجعل من رجل الدولة المسئول يتحرك بين شعبه بحرية كاملة من دون حراسة مشددة، وعيون مبثوثة ترصد الرائح والقادم في شك.

كم من الكتاب العرب في عصر الأحلام الوردية كانوا يقارنون بين الزعماء الغربيين الذين يركبون الحافلات العامة، بعد انتهاء ولايتهم من السلطة مع الناس العاديين، يرتادون المطاعم من دون حراسة، وكان اؤلئك الكتاب الحالمون يطمحون في يوم من الأيام أن تكون زعاماتهم بمثل تلك، إلا أن الحلم يبتعد.

آخر فنجان قهوة شربه الشهيد رفيق الحريري كان في مقهى «اللتوال» المطل على ساحة النجمة التي تحتضن في طرفها القريب الآخر البرلمان اللبناني، ومن بعده امتنع السياسيون اللبنانيون عن شرب القهوة في غير مكمنهم الخاص والمدجج بالحراسة.

بصرف النظر عن المثال اللبناني الذي هو خاص وظرفي، وربما يطول زمنه، البعض يرى أن الديمقراطية العربية، مثل الزعامات العربية، في الغالب محبوسة في أطر ضيقة، وقد استعيض عنها، للمفارقة، بديمقراطية العنف، فقد تحولت بعض بلادنا من مركزية السلاح للدولة إلى سلاح لكل تكتل طائفي أو عرقي أو مذهبي، في العراق ولبنان وفلسطين المثال واضح. بعدها أفرزت الديمقراطية العربية، ان كان هناك شيء يوصف بتلك الصفة، أفرزت (صمت الخوف من التصنيف)، وهي قضية قلما تناقش، منذ أن انطلقت مقولة (لا صوت يعلوا فوق صوت المعركة) فقط تحولت معركة الإدانة لمن يجرؤ على النقد من إدانة وطنية إلى إدانة فكرية أو عقائدية تشجب تعدد الأصوات وتدعو إلى الصوت الواحد، حتى عاد مجتمعنا العربي في معظم دوله «مجتمعاً مستقطباً» إلى درجة أن الحديث عن الديمقراطية بمعناها الشامل والتعددي، هو للبعض عار يجب عدم ترديده أو ذكره، وللبعض الآخر مكروهة، لأنها تجلب الكثير من عدم الأمن. وعندما يبدأ الإرهاب الفكري يعقبه على طول الخط الإرهاب المادي

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1271 - الإثنين 27 فبراير 2006م الموافق 28 محرم 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً