حين أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش، في خطاب ألقاه قبل 4 أيام وخصص جزءاً منه عن العراق للتعليق على الحوادث الأخيرة، ان العراقيين أمام «ساعة الخيار» عارضاً عليهم الاختيار بين الطائفية (التقسيم) والعنف الطائفي وبين الديمقراطية وقبول شروط الاحتلال... شاء أن يوضح لقادة القوى السياسية ألا خيار ثالثاً أمامهم.
في اليوم التالي للخطاب اتصل بوش بكل الاطياف والرموز والزعماء محاولاً توظيف جريمة سامراء لخدمة المشروع الأميركي واقترح عليهم العمل من أجل تأليف حكومة «اتحاد وطني» تتمثل فيها كل الاطراف وتشرف عليها إدارة الاحتلال.
الخطاب وما اعقبه من اتصالات يضعان النقاط على الحروف ويرسمان حدود تلك اللوحة الفسيفسائية التي استخدمتها وخططت لها قوات الاحتلال منذ فترة زمنية سبقت إعلان الحرب قبل ثلاث سنوات. فبوش يعرف عن ماذا يتحدث وهو لا يتردد في تهديد الاطراف المعنية بالمزيد من الكوارث الطائفية إذا لم توافق الاطياف السياسية على الشروط وتلك القواعد التي وضعتها كأساس فيدرالي لإعادة بناء الدولة.
بوش في خطابه لا يتحدث عن خيارين وانما عن خيار واحد وهو القبول بالاحتلال والموافقة على شروطه من دون نقاش أو تعديل. والسبب أن الخيار الآخر (العنف الطائفي) هو بكل بساطة لا خيار وانما خراب شامل لا يعرف المدى الزمني أو الجغرافي الذي سينتهي إليه العراق.
«الديمقراطية» هي غبار للتعمية والتغطية على المطبات التي حفرتها قوات الاحتلال خلال فترة وجودها المباشر منذ ثلاث سنوات. فالديمقراطية كلمة مطاطية ولزجة ويمكن أن تفهم على أكثر من إطار أو مقلب. وهي في النهاية مجرد خدعة أو وسيلة للاكراه واخضاع القوى السياسية العراقية للقبول بشروط المحتل كوسيط أمني يضبط التوازنات ويمنع انزلاق الجماعات الأهلية نحو الاصطدام والتحارب. فالخارج برأي بوش هو الضامن لوحدة الداخل الفيدرالية وإلا فالخيار البديل هو العنف الطائفي.
هذا ما قصده بوش في خطابه، فهو يعلم أكثر من غيره أن الديمقراطية في بلد يعاني التشرذم والتشتت وتسيطر عليه حالات الفراغ والفزع لا معنى لها من دون وجود قوة تتحكم في النوازع والمخاوف. وبالتالي القوي يسيطر على اللعبة الداخلية ويديرها بالاتجاه الذي يخدمه. والديمقراطية في العراق الآن ووفق المواصفات الاجتماعية التي يعاني منها ويحتمل أن يمر بها تساوي الاحتلال.
بوش يعلم، كذلك الطاقم الشرير الذي يتخذ قرارات «البيت الأبيض»، أن شروط الاجتماع العراقي الآن لا تتناسب مع تلك الديمقراطية التي يتحدث عنها. فهناك فجوة تاريخية بين الواقع السياسي المتشرذم مناطقياً (طائفياً ومذهبياً وعشائرياً) وبين نظام ديمقراطي يحتاج إلى علاقات اجتماع مختلفة تحترم اللعبة وشروطها.
الديمقراطية إذاً في عراق اليوم لا معنى لها لأنها تفتقد إلى الشروط الاجتماعية ومواصفات ميدانية تحتاجها للنجاح. فهي مجرد كلام فارغ يقال عادة في مناسبات للمواساة أو لكسب الوقت. وهذا بالضبط ما أراده بوش حين خاطب العراقيين بعد مأساة سامراء وعرض عليهم اتخاذ القرار الحاسم في «ساعة الخيار» بين الديمقراطية (الاحتلال) والنار (الطائفية).
العراق الآن يعيش في فترة فراغ ويحيط به الخراب والقتل العشوائي اليومي والناس في حال فزع تسيطر عليهم المخاوف من كل الجهات. فهناك عشائر نصف سنية ونصف شيعية، وهناك مناطق متداخلة في تكوين سكانها، وهناك احياء متناصفة بين سنة وشيعة، وهناك قرى متجاورة سنية وشيعية، وهناك عائلات (أسر) نصف سنية ونصف شيعية جمعتها العادات والتقاليد والمصاهرات... وهناك الكثير من علامات التقدم تشد قوى الوسط (المركز) إلى وحدة تتغذى من روافد مختلفة تتحكم بها مصلحة مشتركة ومتوحدة في المصير والأهداف.
كل هذه الروابط والمشتركات والجوامع تتعرض الآن لضغوط مختلفة تدفعها إلى التوتر والانتباه وتثير من داخلها عناصر الفرقة والاختلاف والانقسام. فكل هذه «الانصاف» بدأت تتحول إلى اجزاء وكل جزء يبحث عن نصفه الآخر في مكان (منطقة) أو طائفة أو عشيرة أو مذهب ينزح إليه ليس كرهاً بالنصف الآخر وانما خوفاً من «مجهول» يضرب في الليل. فهذه الانصاف (نصف سني أو نصف شيعي) تتعرض إلى هجمات منذ ثلاث سنوات من مقنعين ومرتزقة لا يعرف من يحركهم ويمولهم ويدربهم ويرسلهم لايقاع الفتنة بين أهل جمعتهم الجغرافيا في وسط بلاد الرافدين.
كلام بوش عن «ساعة الخيار» بين الاحتلال والنار جاء رداً أو تكملة لتلك الجريمة التي ارتكبت بحق المرقدين. فمن فعلها يعلم تماماً ما هي تداعياتها. وبوش ادرك فوراً ما هي نتائجها. فهو يعلم اسم الفاعل وإذا لا يعلم فإنه على الأقل تصرف وفق ما تتطلبه مصالح الاحتلال فعرض على العراقيين الاختيار بين عراق فيدرالي تتحكم به واشنطن أو وحدات (عراقات) تعصف بها نيران العنف الطائفي. وكل خيار اسوأ من الآخر.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1271 - الإثنين 27 فبراير 2006م الموافق 28 محرم 1427هـ