لن ننسحب إلى حدود 4 يونيو/ حزيران 1967، القدس مدينة موحدة وعاصمة «إسرائيل»، لن نقوم بتفكيك المستوطنات في الضفة، لن نوقف حركة الاستيطان ومصادرة الأراضي، سنواصل توسيع الرقع السكنية، لا نقبل بفكرة العودة للفلسطينيين، لا نريد دولة فلسطينية ذات سيادة و«قابلة للحياة». هذه اللاءات التي ترفعها حكومة أقصى التطرف بقيادة الزعيم الليكودي بنيامين نتانياهو تختصر الكثير من المسافات وتوضح زوايا خريطة طريق تنتهي إلى حائط مسدود يشبه «جدار الفصل العنصري» في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
برنامج «الليكود» المتحالف وزاريا مع مجموعات عنصرية «قومية» ودينية «أصولية» يشكل في جوهره السياسي خطة عمل لا يمكنها أن تتحقق من دون مواجهات داخلية وإقليمية ودولية. فهذا الكلام المشروط عن التسوية من الجانب الإسرائيلي يعني أنه لا يريد تسوية مهما كلف الأمر. وإقفال باب التسوية من كل جوانبه يضع فعلا المنطقة العربية أمام خيارات صعبة ومقفلة في حال فشل الرئيس الأميركي باراك أوباما في ممارسة نفوذه والضغط على تل أبيب للقبول بالحد الأدنى من التنازلات والتراجعات لمنع انزلاق «الشرق الأوسط» إلى صدام عنيف.
على ماذا تراهن «إسرائيل» حتى تعلن حكومتها عزمها في تأكيد رفضها لكل المحاولات والمبادرات الدولية والعربية التي أبدت استعدادها للتفاوض والتحاور بشأن مختلف الملفات؟
هناك احتمالات كثيرة تتجاوز عقدة الخوف من الأكثرية والمحيط وتفضيل الانزواء والانكفاء في «غيتو» دولة يهودية صافية ونقية على الانفتاح والاستقرار في المنطقة. العوامل الايديولوجية موجودة بقوة وهي أحيانا تلعب الدور الأساسي في تشكيل وعي مضطرب يقارب النزوع نحو المغامرة وربما الانتحار. إلا أن المراهنة لابد أنها ترتكز أيضا على جوانب سياسية مرئية تعزز قوة الايديولوجيا وتبرر تماسكها الأهلي لمواجهة كل تلك الضغوط الدولية والإقليمية والعربية.
الرفض الإسرائيلي لكل محاولات الترضية والتسوية حتى من حليفها الدولي الاستراتيجي (الولايات المتحدة) يطرح فعلا علامة استفهام بشأن تلك الخفايا غير المنظورة التي تراهن عليها تل أبيب.
أهم تلك الاحتمالات السياسية المرئية والخفية التي تبني حكومة نتانياهو استراتيجيتها الرفضية عليها تتشكل من مجموعة نقاط افتراضية يمكن إجمالها بالآتي:
أولا، الإحساس بالتفوق والقوة على المحيط العربي والمجموع الإسلامي. والمبالغة في تقدير القوة يعزز الإحساس بالتفوق ويعطي المجال للتهور والمغامرة في اعتبار أن الشعور بالقدرة الذاتية على كسر الدول والموازين العسكرية يفتح الباب أمام التحدي ويؤسس خطوات لمواجهة «محيط» لا يتمتع بذاك الاستعداد للتضحية.
ثانيا، الاقتناع بوجود ضعف عربي غير قادر على تجاوز خيار السلم واعتماد حل آخر غير مبادرة السلام العربية التي أقرت في قمة بيروت في العام 2002. واقتناع «إسرائيل» بعدم وجود بديل عربي لما هو موجود ومعروض يعطيها المجال لقبول التحدي وخوض مغامرة ايديولوجية لن تتحول في يوم ما إلى خيار عسكري بسبب ذاك الضعف البنيوي الذي ينتشر في مختلف المناطق العربية والمسلمة من ضمنها سورية وإيران.
ثالثا، عدم قدرة المحور الإيراني- السوري على قبول التحدي وأخذ المبادرة بسبب النقص في الاستعداد للمواجهة العسكرية. وهذا ما اكتشفته وتأكدت منه تل أبيب خلال العدوانين على لبنان وغزة. فالحرب الأولى التي دامت نحو 34 يوما والثانية أكثر من 22 ويوما أوضحتا ضعف قدرة المحور الإيراني- السوري على تلبية نداء الواجب. وبعد الحرب الأولى والثانية باتت تل أبيب كما يبدو على قناعة تأسست على التجربة العسكرية أن دمشق وطهران لا تفكران ولا تخططان للحرب أو التحرير وإنما تبحثان عن دور إقليمي في «الشرق الأوسط». والدور الإقليمي ليس بالضرورة سيكون من حساب «إسرائيل» وإنما من ضمن ترتيبات تعقد بين دول المنطقة العربية.
رابعا، اختلاف قواعد اللعبة أعطى ذريعة لتل أبيب للتهرب من المسئوليات الدولية وعدم الاستجابة لتلك القرارات الصادرة عن مجلس الأمن. فالذريعة هي شماعة «الإرهاب» وتضخيم المخاوف الأمنية من صواريخ «حماس» في غزة وراجمات حزب الله في لبنان. واختلاف قواعد اللعبة ساعد حزب «الليكود» على تشكيل قناعات تؤشر إلى أن الحروب في المنطقة لم تعد بين دولة ودولة وإنما بين دولة وحزب مسلح وبالتالي فإن التفاوض يصبح مع التنظيمات والحركات المسلحة وليس مع الدول. وتحت سقف هذه الذرائع أخذت تل أبيب تناور في مشروع التفاوض مع السلطة الفلسطينية بذريعة أنها ضعيفة وبالتالي لا تستطيع أن تقدم لها «دولة» حتى لا تسيطر عليها «حماس». والأمر نفسه تقذفه في وجه لبنان بذريعة أن الدولة ضعيفة وغير قادرة وبلاد الأرز ساحة مفتوحة لـ«دولة» حزب الله الذي بات في موقع يملي شروطه على مختلف الأطراف.
اللاءات الإسرائيلية متنوعة في سلوكها وقواعد عملها. فهي ليست ايديولوجية بالكامل وإنما تشتمل على مجموعة قناعات سياسية واختبارات ميدانية وخيارات تفاوضية «غير مباشرة» خضعت مرارا للامتحان ونجحت في معطياتها النظرية والعملية. وبناء على هذه التقديرات الذاتية والإقليمية تميل تل أبيب دائما إلى ترجيح كفة الرفض وعدم التعامل باحترام وجدية مع كل المبادرات أو التنازلات أو حتى التهديدات بـ«الحرق» و«المسح» و«الاقتلاع» و«الطرد».
حتى إيران تحولت في المعايير الإسرائيلية إلى قيمة مضافة تعطيها ذريعة للرفض وعدم التجاوب مع الضغوط الدبلوماسية الدولية والأميركية تحت ستار الخوف على أمن المستوطنات والمستعمرات من صواريخ محمود أحمدي نجاد ومشروعه النووي وقنابله الصوتية.
نتانياهو الآن لا يقبل بفكرة «مشروع الدولتين» لأن الحل سيقدم «الدولة الفلسطينية» على طبق من فضة لحركة «حماس». ولا يقبل بالانسحاب مما تبقى من أراضي محتلة في جنوب لبنان لأن التراجع يهدد أمن «إسرائيل» ووجودها ويعرضها لمخاطر صواريخ حزب الله. ولا يقبل بالمبادرة العربية للسلام لأنها تفسح المجال للمحور الإيراني- السوري بالتقدم إلى مشارف بحرية طبرية وقرى الجليل.
مراهنة «إسرائيل» ليست مجرد أطروحة ايديولوجية تعزز فكرة الخوف المعطوفة على الإحساس الذاتي بالتفوق وإنما هي أيضا تعتمد على مجموعة معطيات سياسية تقوم على خريطة طريق توصل المنطقة إلى حائط مسدود. وسياسة الأبواب المقفلة التي أطلقها نتانياهو بالتوازي مع وزير خارجيته أشارت إلى مجموعة شروط لفتح الأبواب على القنوات الدبلوماسية منها «تهويد القدس»، «إسرائيل» دولة اليهود (نقاء الدولة)، رفض العودة وأخيرا منع إيران من مواصلة مشروعها النووي. وكل هذه النقاط التي ترى تل أبيب أنها تشكل مجتمعة بداية مطمئنة وتشجعها على الدخول في موضوع التسوية تعتبر في حد ذاتها عقبات للحل الدبلوماسي وخطوة قد تدفع المنطقة إلى عاصفة دائمة من الأزمات المتواصلة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2455 - الثلثاء 26 مايو 2009م الموافق 01 جمادى الآخرة 1430هـ