الاتصالات التي بدأت بين الاطياف والقوى السياسية العراقية هل تنجح في احتواء الأزمة وتشكيل حكومة وطنية موحدة أم أن الأمور تجاوزت التسويات وباتت الوقائع الميدانية تفرض شروطها؟
كل الاحتمالات مطروحة ولكن الأمور تشير من أسوأ إلى أسوأ. فالعراق كما اظهرت الحوادث الأخيرة دخل في نفق مظلم ويرجح ان تصطدم كل المحاولات في عقبات تحتاج إلى جهود جبارة للسيطرة على تعارضاتها. وهذا النوع من التسويات الصعبة يتطلب عادة قيادات تنتمي إلى نسيج اجتماعي مختلف يقرأ التطور من زاوية بناء الدولة الجامعة لا مكاسب الطائفة وحصة المذهب في هذه التشكيلة أو تلك.
وصل العراق الآن إلى منعطف خطير وكل ما شهدناه من تداعيات بدأت منذ اجتياح قوات الاحتلال بلاد الرافدين أوصلت الفرقاء، بوعي أو من دون وعي، إلى سكة تدفع بالقطار إلى التصادم الأهلي أو انفصال كل مجموعة إلى مناطقها والانزواء في اطر مؤقتة بانتظار المجهول.
هذا النفق المظلم خططت له الولايات المتحدة منذ أمد طويل وبدأت ملامحة تظهر على الأرض. والواقع المنقسم أخذ يفرض شروطه على القوى السياسية ويضغط عليها للتعامل مع افرازاته حتى لا تتكرر الكوارث وتتسع دائرتها. وما حصل من فعل وردود فعل على جريمة نسف قبة العسكرين (ع) في سامراء كشف بوضوح عن وجود انقسامات سياسية نجحت في اختراق شبكة العلاقات الأهلية الممتدة من الجنوب إلى الوسط وصولاً إلى بغداد.
الانقسامات قديمة وهي موجودة في عمق المجتمع منذ عقود إلا أن ما احدثه الاحتلال من خراب ودمار وتقويض ونهب وحرق وتوتير وخلخلة شكل دفعة إلى الوراء زعزعت الكثير من الجوامع المشتركة وهزت الثقة وهددت الروابط.
قبل الاحتلال كان تيار دعاة التجزئة والتقسيم يعاني من ضعف في شعبيته. وباستثناء شمال العراق لم يكن لفكرة توزيع الدولة على مناطق مستقلة تخضع لحكومات محلية انصارها سوى عند اتجاهات تغذيها الولايات المتحدة من الخارج.
قبل الاحتلال كان هناك شبه استحالة للبحث في هذا الموضوع ليس بسبب سلطة القمع ونظام الاستبداد الذي تقوده منظومة أسرية/ عشائرية فقط وانما أيضاً بسبب انكفاء عناصر الفرقة والتشرذم بين ابناء بلاد الرافدين. فمن الناحية الجغرافية هناك صعوبات (ولاتزال) بسبب وقوع المدن العراقية الرئيسية الثلاث على خط نهري واحد (دجلة). هذه المدن (الموصل، بغداد والبصرة) محكومة تاريخياً بعلاقات مصلحة تشدها اواصر الاجتماع من زواج ومصاهرة.
ومن الناحية الاجتماعية/ السياسية كانت المدن الثلاث تشكل الأساس العمراني/ البشري لقيام الدولة العراقية الحديثة فهي مرتبطة ومترابطة وتغذي العاصمة (المركز) بالعناصر المهنية والمتدربة وترفدها بالقوى البشرية الباحثة عن استقرار وعمل وتحتاجها بغداد لتقوم بوظيفتها المركزية في ربط اطراف الجمهورية وشدها إلى الوسط.
وتشكلت من نقطة الوسط (بغداد) مجموعة خيوط أسست شبكة علاقات أهلية تداخلت في دائرتها مختلف المجموعات العرقية والاقوامية والدينية والعشائرية والمذهبية والطائفية. فالوسط كان رافعة العراق الحديث ومنه تكونت قوة اجتماعية جديدة اختلطت فيها مختلف ألوان المذاهب والطوائف والعناصر الزاحفة أو النازحة من الريف أو الاطراف إلى المركز (محافظة العاصمة).
هذه التركيبة المختلطة كانت عفوية وتشكلت تاريخياً بحكم علاقات الجوار التي تفرضها عادة الاحياء المدينية. وتحول هذا المزيج إلى قوة من الصعب كسرها حتى على نظام مستبد وظالم قادته سلطة الأسرة/ العشيرة في فترة امتدت على عقود ثلاثة.
كل هذه الوقائع أسست عند العراقيين مجموعة ثوابت وطنية وأنتجت سلسلة قناعات مبدئية كانت تؤكد دائماً ألا خوف على العراق من حرب أهلية وأن الطائفية في بلاد الرافدين ضعيفة وما حصل في لبنان في سبعينات القرن الماضي يستحيل أن يتكرر في العراق.
هذه القناعات تحولت عند الكثير من القوى السياسية العراقية إلى قاموس ثقافي يفتح ويغلق للرد على أسئلة الخوف المتصلة بمستقبل بلاد الرافدين ومصيرها المحفوف بالمخاطر.
الآن كما تبدو الأمور وصل القطار العراقي إلى سكة تنذر بالانفكاك وذهاب كل مدينة إلى دائرة خاصة بها تعيد تشكيل بنيتها السياسية وفق شروط الاجتماع المحلي (الاقوامي، المذهبي، الطائفي والمناطقي). وهذه المسألة تحتاج إلى وقت وصعوبات (وربما كوارث) إلا أن الوقائع الميدانية التي اظهرتها الحوادث الأخيرة تكشف عن نجاحات سلبية حققها الاحتلال خلال ثلاث سنوات اتبع فيها سياسة تقويض الدولة وتفكيك التواصل والاتصال بين المناطق الثلاث.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1270 - الأحد 26 فبراير 2006م الموافق 27 محرم 1427هـ