في عالم الإنسان، تتطور النظرة إلى العوالم والأشياء، متجاوزة قيمها المادية إلى قيم معنوية إذ تصبح ذاتها رمزاً لتلك القيم. فالجبال الشاهقة المنيعة تصبح رمزاً للكبرياء والشموخ، بينما تصبح البلابل الصغيرة المغردة والحمائم البيضاء، رمزاً للحب والسلام. ولا نتكلم اليوم عن الرموز العظيمة في عالم البشر، من أجيال العظماء. وإنما نتكلم عن رمز جميل في الطبيعة العربية خاصة ألا وهو «النخلة»... فهي إلى كونها مصدر الغذاء الرئيسي لعرب الصحراء، وعرب المدن - حتى وقت ليس ببعيد - قد أصبحت رمزاً للخير، والحضارة والعطاء.
فأما كونها رمزاً للخير فيكفي في ذلك ما يروى فيها عن الرسول الكريم قوله «أكرموا أمّكم النخل»... وما ورد كذلك في آي الذكر الحكيم في سورة مريم (الآية: 25): «وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً...» ولاشك أن خيرات النخلة بجانب ثمرها شيء كثير.
والنخلة رمز لابتداء الحضارة في عالم الإنسان. إذ يكون وجود النخيل باعثاً على استقرار البشر وبدء العمران. وهل يمكن تصور واحة في قلب الصحراء بلا نخيل...! أما عطاء النخلة بالإضافة إلى ثمرها وما يستخرج منه، فكثير أيضاً... فمنها كانت تصنع الحصر، والكراسي والمقاعد وأسرة النوم (السجم)، ومنزات الأطفال والسلال بأنواعها. وصناديق حفظ الألبسة، والحبال وليف تنظيف الصحون، والمكانس، والمراوح (المهفات) والعّلاقات لحفظ الأكل، والمقاعد (القاعودية) للجلوس على الأرض، وموائد الطعام (السفرة) واطعام المواشي، والسلال الفاخرة، إلخ... أما الأغصان والجذوع والكرب فكانت تستعمل للوقود كما تستعمل لبناء المساكن. وما ذكرته إن هو إلاّ شيء يسير من عطاء النخلة. واليوم تغيرت الحال ونفقت تلك الصناعات المحلية المفيدة.
وكذلك أصبحت النخلة وما قالته للبحر والنسيم، وللكادحين المحرومين... مصدر إلهام لكثير من الشعراء والقصاصين.
وجدت في إسبانيا خلال زياراتي المتكررة لها، اهتماماً بالغاً باستيراد النخل من دول المغرب وزرعها على جوانب الشوارع والطرقات، واستعمالها على شواطئ البلاجات بدلاً من المظلات... وذلك على رغم كلفتها العالية. وفي زيارتي الأخيرة لجنوب إسبانيا، توقفت في بلدة «الميريا» على ساحل البحر الأبيض المتوسط، عند معلم سياحي أقيم في السنوات الأخيرة على الساحل البحري، وقد انتصب فيه تمثال مهيب لشخصية عربية، ولما دنوت من التمثال وقرأت ما كتب تحته، غمرني فيض من المشاعر الجميلة، وقلت في نفسي: لاشك أن الإسبان أدركوا أخيراً ما يمثله تاريخ العرب في الأندلس من حضارة ورقي... وجاذبية للسائحين.
كان التمثال للخليفة الأموي عبدالرحمن الداخل، (وهو آخر خلفاء بني أمية الذي نجح في الهروب من العباسيين وتأسيس الدولة الأموية الثانية في الأندلس) وقد كتب تحت التمثال ما معناه «من هذا المكان نزل عبدالرحمن الداخل من البحر في طريقه إلى غرناطة»... وذكروا تاريخ النزول ومعه هذا البيت من الشعر منسوباً إليه:
تراءت لنا عند الرصافة نخلة
تناءت بوادي النخل عن بلد النخل
وهكذا كانت النخلة تمثل رمزاً لحنين عرب الأندلس إلى أوطانهم العربية.
أما في البحرين، فإننا لانزال نسميها بلد المليون نخلة... وربما كانت كذلك في الماضي وليس الآن!
حين أتذكر المنامة في الثلاثينات والأربعينات، أتذكر معها واحات النخيل في جوف المنامة، والتي تسمى «دالية» وكذلك «دواليب النخيل» على الحواشي منها، إذ كانت تمثل للسكان ملجأً من حرّ الصيف، واستراحة لتجديد الحيوية والنشاط، كما كانت مجالاً للتواصل والتعارف بينهم. ومنذ بضعة أيام مررت على مساكن أقيمت في موقع كانت تحتله «دالية بن رجب» وحين سألت أحد الساكنين عنها أشار إلى نخلة عملاقة يتجاوز طولها الخمسين قدماً، وقال: هذا ما بقي من تلك الدالية، فرقّ لها قلبي... إذ يقال إن الشجر عنده تواصل ونوع من الإحساس... فلعلها اليوم تتحسر على شقيقاتها الماضيات.
ليست لدينا إحصاءات دقيقة عن عدد النخيل في البحرين في الماضي... ولكني عثرت على إحصاء طريف ورد في موسوعة «دليل الخليج» لمؤلفه ج. ج. لوريمر المطبوع سنة 1908، إذ يذكر بالتفصيل عدد النخيل في قرى البحرين واحدة واحدة في ذلك الزمن، حتى يصل الرقم الإجمالي إلى نحو من ثلاثمئة وعشرين ألف نخلة تقريباً، على رغم أنه تجاهل بعضاً منها مثل السهلة الحدرية أو سهلة الصغيرة مكتفياً بالقول: إن النخيل تمتد على طول الطريق من السهلة بين المنامة والرفاع. والجبيلات إذ قال: فيها كثير من مزارع النخيل.
وقرى البحرين التي ذكرها المؤلف كثيرة جداً، أكتفي بإيراد أسماء تلك التي يزيد عدد النخيل فيها على عشرة آلاف نخلة، مثل: بلاد القديم 11500 نخلة، الحجر 12000، جدحفص 16500، كرزكان 16500، مانع (ربما يقصد قرية مني) 19000، صدد 10500، السهلة الفوقية 15000، الزنج 12000، إلخ.
ولو حسبنا المساحة اللازمة لذلك العدد من النخل على أساس المسافة المتعارف عليها في مغارس النخيل (20 قدماً أو 6 أمتار بين الواحدة والأخرى) لأصبحت تلك المسافة مقاربة إلى 450 كيلومتراً مربعاً تقريباً من مساحة البحرين الإجمالية والتي هي تقارب نحو 650 كيلومتراً مربعاً.
وفي الختام، بمناسبة مأساة النخلة في بلدنا، يحق لنا أن نعاتب أنفسنا قائلين: ماذا فعلنا بك يا نخلة... أيتها الأم الرؤوم.
كاتب بحرين
إقرأ أيضا لـ "تقي محمد البحارنة"العدد 1269 - السبت 25 فبراير 2006م الموافق 26 محرم 1427هـ