العقل الشيطاني الذي خطط وسهل مرور تلك المجموعة التي نفذت عملية تفجير المرقدين في سامراء فكر كثيراً قبل اتخاذ قراره لأنه كان يعلم ماذا تعني هذه الضربة، فالفاعل الذي استخدم منفذاً درس الموضوع من كل جوانبه وأجرى كل الحسابات وقام بوزنها من كل الجهات واتخذ القرار وأجل تنفيذه إلى توقيت مناسب.
قرار التفجير ليس بنت ساعته أو مجرد خطوة اتخذتها مجموعة شريرة تعمل باستقلال عن مظلة الاحتلال الأميركي وتوابعه. فالقرار مضبوط ومحسوب ضمن سياق مبرمج انتظر اللحظة المناسبة لتنفيذه. وهذا ما حصل عندما رد رئيس الحكومة إبراهيم الجعفري على تصريحات سابقة أدلى بها السفير الأميركي زلماي خليل زاد واصفاً تعليمات الاحتلال بألا معنى لها ولا مبرر لقولها.
تصريح سفير الاحتلال ورد رئيس الحكومة العراقي عليه كشفا عن وجود اختلاف في وجهات النظر وبداية افتراق بين الطرفين في قراءة الازمة الحكومية والوسائل الواجب اتباعها لاحتواء تعارضات الأطراف الممثلة في البرلمان.
التلاسن الذي ظهر مكشوفاً أمام الرأي العام كان من الصعب أن تسمح إدارة الاحتلال بتمريره من دون رد ميداني يظهر ضعف الحكومة وعدم قدرتها على ضبط الأوضاع الأمنية. وهذا التلاسن ليس جديداً ولكنه للمرة الأولى يظهر علناً وبهذه الدرجة من القوة والوضوح. فهناك الكثير من المعلومات تحدثت عن وجود خلافات وعدم انسجام بين المحتل وأبناء البلد بسبب إصرار إدارة الاحتلال على تطويع القوى السياسية العراقية وتكييفها وأذلالها. فالمحتل يرفض التمايز ويمنع على القوى السياسية، بما فيها تلك المستفيدة منه، أن تأخذ مسافة عنه.
هذا النوع من الحساسيات تراكم وأخذ يتطور سياسياً وشكل مادة للكلام السلبي الذي كان يقال في الغرف السرية وفي الجلسات الخاصة... إلا أنه تحول في المدة الأخيرة إلى نوع من التشنجات عكس نفسه على الأرض وظهر ميدانياً في أكثر من زمان ومكان.
رد الجعفري على زاد كان نقطة طفح منها الكيل. فالنقطة الفائضة كشفت عن وجود خلل في العلاقات وبينت أن الهوة اتسعت ولم يعد بالإمكان تجسيرها أو احتواء النتوءات التي ظهرت إبان التجربة المريرة التي يعاني منها الشعب العراقي منذ احتلال أرضه وتقويض دولته.
الضربة الشيطانية التي نفذتها مجموعة تتحكم فيها أجهزة الاحتلال خططت لها منذ فترة إلا أن توقيت الهجوم جاء للرد الفوري على كل محاولة للتمايز أو التمرد على الأوامر. فالضربة رسالة موجهة إلى كل المعنيين بالموضوع وتريد أن تقول: «سنحرق العراق في حال دفعنا إلى الخروج منه».
كاد هذا الأمر أن يحصل حين انهار البلد بعد ورود خبر التفجير. ولولا مسارعة العقلاء لكانت الأمور ذهبت إلى حدودها القصوى. فالعقل الشيطاني الذي ارتكب الجريمة درس تداعياتها وحسب كل فعل ستعقبه ردة فعل وأن الانفعالات ستطلق موجة مرتدة غير واعية سيدفع ثمنها الأبراء وستسهم في تمزيق ما تبقى من شبكات أهلية تتلاقى على خطوطها الطوائف والمذاهب في بعض المناطق.
اتهام الولايات المتحدة و«الموساد» وخلايا التكفير الذي ورد في تصريحات وخطب صدرت من بغداد وبيروت وطهران ليس كلاماً يلقى هكذا... كما حاول أن يقول القائم بأعمال السفارة الأميركية في بغداد والمتهم من إدارته بأنه جاسوس لـ «إسرائيل» ديفيد ساترفيلد.
الاتهامات دقيقة في رصدها السياسي للتحولات التي بدأت تطرأ على برنامج الأولويات الأميركي. والتعديل المتوقع يتطلب إحداث هزة وجدانية تزعزع استقرار العراق والمنطقة بهدف خلط الأوراق تمهيداً لوضع جدول لمهمات جديدة تحتاج إلى فتنة كبيرة لتغطيتها.
ما حصل في سامراء عمل شيطاني خدم في النهاية سياسة الاحتلال الأميركي وكشف أمام العالم أن المسلمين تجمعهم الفرقة... والعداء بينهم أكبر بكثير من تلك الوحدة التي ظهرت مؤقتاً ضد الرسوم المسيئة للرسول الكريم (ص). وهذا بالضبط ما مر عليه سريعاً الرئيس الأميركي جورج بوش في خطاب القاه أمس الأول في واشنطن.
من يقرأ خطاب بوش يفهم الرسالة التي ارتكبها العقل الشيطاني في سامراء. فالرئيس الأميركي قال عن «الشرق الأوسط» إنه «جسر». وتشبيه المنطقة بجسر له معنى في الثقافة الأوروبية. فالمنطقة ليست مكاناً للابداع والإنتاج والتفكير والاستقرار، إنها مجرد جسر للعبور (عبور القوافل أو الجيوش).
هذا الكلام هو تحذير ويدل على مدى احتقار أميركا لثقافة المنطقة وحضارتها. فالمنطقة برأي هذه الثقافة الاستعلائية مجرد «جسر» للعبور، والإسلام لم يقدم الجديد للعالم وحضارته.
كذلك علق الرئيس الأميركي على جريمة تدنيس وتفجير المقامين بالقول: إن على العراقيين أن يختاروا بين العنف الطائفي والديمقراطية. والمقصود أن العراق لا خيار له سوى قبول «الديمقراطية». والديمقراطية في المفهوم الأميركي تعني تأييد الاحتلال. ومن يرفض الاحتلال (ديمقراطية الدبابات) سيحصد المزيد من العنف والاقتتال الأهلي كما حصل حين رد الجعفري على زاد.
والعراق أيضاً، كما قال بوش في خطابه، هو «مسرح» للحرب ضد الإرهاب وللترويج للديمقراطية «في آن». أي أنه ليس وطناً ولا دولة، هو مجرد مساحة جغرافية اختيرت كمكان لعرض البضاعة ومنطقة للتدريب لمحاربة خلايا الإرهاب.
خطاب بوش تعليقاً على كارثة سامراء يحمل الكثير من الدلالات والرموز والاشارات وكل كلمة لها معناها في العقل الجمعي. فالمفردات التي اطلقت من نوع «مسرح» و«جسر» و«ترويج» تشكل في النهاية في القاموس الثقافي المستورد من أوروبا رسالة قوية تعكس تلك الكمية الهائلة من الكراهية والازدراء للعرب والمسلمين.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1269 - السبت 25 فبراير 2006م الموافق 26 محرم 1427هـ