فرضت الجمهوريانية كمقولة ثقافية استحقاقاتها بالشكل الذي لم يعد الحكم في الجمهورية الإسلامية يُبتَنَى على مواقع طبقية أو فردية، وقد انعكست تلك الحيثية الدستورية في أشكال السيادة الدينية في اختطاط منهج إداري وفني أفضى لأن يتشكّل جزء كبير منه في صورة أنماط مُحددة كثوابت مُقدسة لا يُمكن العبث بها إلاّ بإيجاد أكبر مساحة ممكنة من الإجماع والتوافق السياسي بين مراكز القوى واللاعبين الرئيسيين في الساحة المدنية الإيرانية.
ومن تلك الأمور مسألة الانتخاب وما تعنيه من إدارة شئون البلاد، بالاعتماد على أصوات الجمهور، فمنذ انتصار الثورة الإسلامية وإلى الآن جَرَت تسع عمليات انتخابية لاختيار رئيس للجمهورية، و7 عمليات انتخابية لاختيار أعضاء السلطة التشريعية (البرلمان)، و4 عمليات انتخاب لأعضاء مجلس خبراء القيادة، وواحد للمجالس المحلية، بالإضافة إلى الانتخابات التكميلية وعمليات التصويت لاختيار شكل الحُكم السياسي وإقرار الدستور ومن ثم تعديله.
أنه وبالمُحصّلة فإن إيران شهِدَت ومنذ انتصار الثورة مُعدّل عملية انتخابية كل عام، وقد مثّلت تلك الإجراءات جانباً مهمّا ساهم في إضفاء قدر كبير من الصدقية والمشروعية للنظام السياسي، إلا أن الأصوات بدأت تتحدث الآن سواء داخل الحكومة أو التي هي في الظل عن محاذير الإسراف في عمليات الاقتراع التي تستنزف من موازنة الدولة ما يُمكن ادخاره لقضايا التنمية المُلحّة، فالعمليات الانتخابية تتطلب توفيراً للأجهزة الفنية ولاستنفار أمني رهيب، بالإضافة إلى ما تُحدثه الحملات الانتخابية للمرشحين، والتسويق الرسمي المكثف في القنوات الفضائية والإذاعة (عدد الشبكات التلفزيونية الإيرانية 42 شبكة) لإنجاح ما يُعتبر أهم مناسبة قومية للبلاد، فعلى سبيل المثال خصصت وزارة الداخلية الإيرانية خلال الانتخابات النيابية الأخيرة 39885 مركز اقتراع و207 دوائر انتخابية في جميع أنحاء إيران، منها 26176 مركزاً ثابتاً و13709 مراكز متنقلة، وفي طهران وحدها (حيث تستحوذ على حصة الأسد من مراكز الاقتراع) خُصِّصَ 5229 مركزاً في حين جاءت الدائرة الانتخابية للأقليات الدينية في نهاية القائمة إذ خُصّصت لها 84 مركزاً، وهو ما يعني توفير مُخصصات مالية هائلة لإجراء عملية انتخابية واحدة بشكل صحيح وسليم مع الإيفاء بمتطلبات النزاهة الدولية. أضف إلى ذلك ما تفرضه أو ما تؤدي إليه تلك العمليات من تجاذبات سياسية واصطفافات حزبية تتطلب خطاباً سياسياً رسمياً حذِراً وإجراء مواءمات وتسويات للمحافظة على التوازن السياسي في بلد تنشط فيه الصحافة بشكل مُخيف (يبلغ عدد المطبوعات المنشورة في إيران 2871 مطبوعة).
في فبراير/شباط 2004 ونظراً لقيام مجلس صيانة الدستور برفض أهلية 3600 شخص من أصل 8160 أي بنسبة 44,1 في المئة ممن تقدموا بطلبات ترشيح للانتخابات النيابية السابعة، فقد تعالت الأصوات من أطرافٍ عدّة لإعادة النظر في قانون الانتخابات، وخصوصاً من التيار الإصلاحي المتطرف الذي مُنِيَ بهزيمة مُنكرة في تلك الانتخابات، وكان منطلق الدعوات هو إعادة تركيب مفاعيل القانون، بُغية إيجاد فهم له من قِبَل المشرّعين وأمناء الدستور بالشكل الذي لا يُؤدي إلى إعادة فرز وتمحيص للشخصيات والتعامل معها من منطلق نوايا ريبية. من جانب آخر دعا المحافظون إلى إعادة النظر في القانون من منطلق آخر، فهم يدعون إلى ذلك لأنهم يعتقدون أن الإصلاحيين ومن خلال هشاشة القانون ورماديته وجدوا ثغوراً في الطوق استطاعوا من خلالها النفاذ إلى مراكز الدولة والحكم، وكسب نقاط جديدة في معركتهم من غُرمائهم اليمينيين، وهو ما حتّم لأن يدخل الأمناء على خط المواجهة لإيقاف كرة الثلج تلك، وهو ما كان ليحدث لو أن القانون كان أكثر صرامة وشدّة (بحسب رأيهم). وكانت أهم تلك الدعوات ما أعلنه وزير الداخلية بحكومة التعميريين التاسعة مصطفى بور محمدي مطلع ديسمبر الماضي، ففي الوقت الذي نادى الإصلاحيون بتعديل القانون لأنه ينطوي على إشكاليات أساسية، ذهب المحافظون إلى القول إن الوقت قد حان لصوغ نظام شامل للانتخابات، على رغم أن قانون انتخابات رئاسة الجمهورية صُوّت عليه في العام 1985 ثلاث مرات وأُجريت عليه وعلى نظامه الداخلي إصلاحات مختلفة، وكذلك التغيير الذي جرى على قانون انتخابات البرلمان الذي صوِّتَ عليه في المجلس العام، وحاز على موافقة مجلس صيانة الدستور.
ظاهر مُطالبات المحافظين عن تعديل قانون الانتخابات هو مراعاة النفقات الحكومية وإجراء عملية تحديث للنظام الفني، إلاّ أن تلك الدعوات تستبطن أهدافاً ذات مآرب ونيّات مُسبقة، فالحكومة الحالية قدمت مشروع النظام الانتخابي الشامل الذي يقوم على أساس تجميع الانتخابات بغية زيادة الفترة الزمنية بين كل عملية وأخرى، ما يعني حسب ما أعلنه مساعد الشئون السياسية لوزير الداخلية علي جنتي أن الانتخابات ستجرى مرة كل عامين بدلاً من مرة كل عام، وكذلك إجراء الانتخابات التكميلية ضمن الانتخابات الرئيسية.
ان هذا النظام سيقوم بفرز الأصوات بنظام الحوسبة على أن يُتفق في ذلك مع مجلس صيانة الدستور، وما يدفعنا أكثر لأن نقرأ تلك المطالبات من ثقب الانتقام الحزبي، هو أن التيار المحافظ يَعتَبِر أن شروط الترشيح لانتخابات رئاسة الجمهورية غير كافية للتدقيق في المترشحين رغم ما يقوم به مجلس صيانة الدستور من استقصاء، وهو ما أدى (بحسب الفهم المحافظ) إلى ارتفاع عدد المرشحين المسجلين في الانتخابات ليصل إلى أكثر من ألف مُرشح خلال الانتخابات الأخيرة، كان بينهم طلاب وكَسَبَة ورياضيون، الأمر الذي يتطلب بحسب وجهة النظر هذه تضمين القانون اشتراطات جديدة أكثر تشدداً تتعلق بالسلوك الشخصي والحركة الاجتماعية وبالتالي الموقف من الثورة والنظام والدستور وبعض القناعات الأخرى الداخلة ضمن الفهم المحافظ، ما يعني الإيغال أكثر في غربلة الشخصيات المترشحة، وتكريس سياسة تهميش شخصيات (غير منضبطة) من قبيل جبهة المشاركة ومجاهدو الثورة الإسلامية الإصلاحيتين المتطرفتين، خصوصاً أن غالبية من أبعدهم مجلس صيانة الدستور كانت لأسباب تتعلق بعدم اتساق سيرهم الذاتية مع البندين الأول والثالث من المادة 28 من قانون الانتخابات والمتعلقة بالالتزام بالإسلام والوفاء للدستور، حسب الفهم الذي توصّل إليه مجلس الأمناء، مع الإشارة إلى أن وزارة الداخلية سترفع مقترحها إلى لجنة تضم ممثلين عن الأجهزة والمؤسسات الحكومية المختلفة، من بينها الادعاء العام والبرلمان وقوات الشرطة ووزارة الأمن ومجلس صيانة الدستور والمجلس الأعلى للمحافظات، وكلها جهات تكاد تكون متماهية في التوجه الايدلوجي والسياسي.
إبّان اشتداد أزمة رفض الأهليات في فبراير2004 اجتمع المرشد الأعلى للجمهورية السيد علي الخامنئي بأعضاء مجلس صيانة الدستور وقال لهم بالحرف: «إن عليكم أن تنظروا إلى عملية التشخيص على أنها حتمية، ولكن لا تُضيقوا دائرة التشخيص كثيراً ولننظر بشكل واقعي إلى ما هو مدى الالتزام بالدستور وبالدين الإسلامي وسائر الشروط مما هو محدد بالنسبة إلى مجلس الشورى. صحيح أننا نعتبر عملية الإحراز حتمية ولكن عادة ما يكون الإحراز اليقيني والعلمي في مثل هذه الظروف ليس ممكناً... وعليه فإن التشخيص الذي نقصده ليس التشخيص العلمي أو الشرعي بقيام البيّنة بل التشخيص العرفي الناشئ عن القرائن والشواهد... وأمام مجلس صيانة الدستور فرصة لإعادة النظر فيما حصل فانظروا ملفات الأشخاص واحداً واحداً واحملوا على الصحة حيثما شككتم بعمل من كان منكم أو عمل غيركم، فالذين تقدموا مُحرَزِين ما لم يثبت عكس ذلك، فإذا ما ثبت خلافه فلا تسمعوا لقول أي أحد واعملوا بما يثبت. وما لم يثبت عدم إحراز الأهلية فإن الموضع موضع استصحاب الأهلية، فمن كان صالحاً في السابق استصحبوا أهليته الآن، إذ هنالك موضع للشك، وهذا ما يخص النواب الذين أحرزت أهليتهم في الدورة السابقة، أما الذين كانوا في الدورات السابقة فلن يكون ثمة موضع للاستصحاب إذا ما كانت أهليتهم قد رُفضت في الدورة السابقة».
إن هذا الكلام يبدو واضحاً جداً في أن القيادة السيادينية لا ترغب في تأزيم قضايا الترشيح، وبالرجوع إلى مفاعيل هذا الخطاب سنجد أن ذلك الأمر الحكومي دفع بمجلس صيانة الدستور لأن يقوم بتأييد أهلية أكثر من 1002 من أصل 3600 شخص رُفِضَت في السابق أهليتهم، ثم الإعلان لاحقاً أن مرشد الجمهورية أيّد أهلية بعض المرشحين الذين رُفِضَت طلباتهم سابقاً لأسباب تتعلق بالمصلحة العامة، بإضافة أسمائهم إلى قائمة الأشخاص الذين تمّت الموافقة عليها، ثم قيام مجلس الصيانة أيضاً بتأييد أهلية 200 شخص من أصل 380 كانت وزارة الأمن أيدت أهليتهم بعد إيكال المُهمّة لها من قِبَل المرشد بعد تدخله للمرة الثالثة، ليصل مجموع من اُيَّدت أهليتهم بعد إسقاطها إلى 1206 وانخفاض عدد المطعون في أهليتهم إلى 2394 شخصاً.
ما نخلص إليه هنا هو أن القوانين المتعلقة بالانتخاب في إيران تحتاج إلى تعديل بلا ريب، إلاّ أن المهم أيضاً هو أن لا يكون الهدف من ذلك التعديل تصفية لحسابات سياسية بين الفرقاء، واستغلال امتلاك القوة والنفوذ لتمرير مشروعات احتراب، وهو ما يتبيّن بصورة واضحة من دعوة التيار المحافظ بشأن قانون الانتخاب، لأن من شأن ذلك أن يُفقد القوانين هيبتها وصدقيتها، وخصوصاً أن جرّها في كل دورة انتخابية إلى تكيّفات وتوليفات جديدة وفقاً للأجندة السياسية للأحزاب سيعني العبث المُفضي إلى المجهول.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1267 - الخميس 23 فبراير 2006م الموافق 24 محرم 1427هـ