إن معظم الأوراق في ندوة العلاقات العربية الصينية ركزت على بروز الصين كقوة سياسية واقتصادية إلا انها لم تغفل الإشارة إلى أميركا باعتبارها القطب الاوحد والامبرالية العاتية في هذا العالم. وان الصين تحسب لها ألف حساب بسبب أن أميركا تسعى إلى فرض هيمنتها الاحادية على العالم، وان الصين ذات النزعة القومية القوية هي تبقى على رأس المنطقة الاسيوية وسوف تحدد مستقبل النظام الدولي الجديد، وقد ظهر في هذه المنطقة فعلاً تيار يعارض العولمة والنظام الدولي الأحادي الذي تقوده أميركا، وهناك تقارب واضح ظهر في الآونة الأخيرة وفرضته الحوادث. السياسية المتسارعة في الساحة الدولية بين الصين والهند وقد ظهر أخيراً وبطبيعة الحال بتأييد ودعم قوي من روسيا، وقد يشكل هذا نظاماً إقليمياً جديداً ليصبح عاملاً مهماً في التوازنات الاستراتيجية في المستقبل المنظور. إذاً هناك مصالحة صينية هندية برزت إلى السطح أخيراً، وهما عملاقا القارة الآسيوية وبشراكة مع ماليزيا ودول أسيان وكوريا، ولن يكون هناك صدام إنما مساهمة في ضبط النظام الجديد والذي انبثق بعد انهيار وتفكيك الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، والصين مثل الدول الآسيوية الأخرى وما يطلق عليها النمور تسعى إلى تطوير مؤسساتها الداخلية ودعم قدراتها الإنمائية في مجالات الصناعة والزراعة والتعليم والنشاطات الاجتماعية والثقافية، ويندهش الكثير من المراقبين السياسيين عندما يحلو للرئيس بوش اطلاق محور الشر على إيران وكوريا الشمالية وسورية ونعتها بالدول المارقة، ويتساءلون أليست أميركا دولة مارقة وشريرة عندما ألقت بقنبلتيها الذريتين على هوريشيما وناكازاكي وقتلت ربع مليون ياباني أصفر بريء بحجة تقصير أمد الحرب وعدم ازهاق المزيد من أرواح الملايين الأبرياء كما يروج لهذا الإعلام الغربي ويبدو أن الدم الأصفر أكثر رخصاً من الدم الأبيض أو الأزرق وهو دم غال ونفيس حتى الذهب الأصفر لا يدانيه، وان المشاركين في هذه الندوة أشارو إلى أن الدول العربية أدركت منذ الستينات أهمية التقارب والتعاون مع الصين، ومنذ العام 1955 أقامت كل من مصر وسورية واليمن علاقات دبلوماسية مع الصين وذلك انطلاقاً من مبادئ مؤتمر باندونغ لدول عدم الانحياز والذي عقد في اندونيسيا آنذاك والقائم على المبادئ الخمسة للتعايش السلمي، وتحرص الصين في كل مناسبة على الإشادة بهذه المبادئ وذلك خلال علاقتها مع الدول الأخرى، إلا أن الهاجس الأميركي منذ خمسينات القرن العشرين الماضي بقي حاضراً لدى معظم الدول العربية نتيجة للضغوط الأميركية المتواصلة، وعلينا أن لا نذهب بعيداً في علاقتها مع الصين الشيوعية وخلال حقبة حلف بغداد والذي كان يضم آنذاك باكستان وتركيا والعراق وقد انسحبت منه بعد الانقلاب الذي قاده عبدالكريم قاسم العام 1958، وفي هذا العام أقامت كل من المغرب والجزائر والسودان علاقات دبلوماسية مع الصين، ونظراً لتأييد الصين الواضح والقوي لحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية فقد كسبت عطف شعوب وحكومات الدول العربية، وكانت زيارة الرئيس نيكسون للصين في فبراير/ شباط 1971 مؤشراً على تحسن العلاقات الدبلوماسية بين الصين وأميركا وانعكس هذا بدوره على الدول العربية، فأقامت علاقات دبلوماسية مع الصين مثل الأردن ولبنان والكويت في العام 1971 وكأنه بمثابة الضوء الأخضر لهذه الدول والتي ترتبط بعلاقات قوية مع أميركا، وأقامت سلطنة عمان العلاقات الدبلوماسية مع الصين في العام 1978 ثم تبعتها دولة الإمارات، وآخر دول الخليج التي أقامت علاقات دبلوماسية مع الصين هي قطر والبحرين وآخرها السعودية في يوليو 1990 إذ زار بكين الأمير بندر بن سلطان سفير السعودية في أميركا، إيذاناً بقيام علاقات دبلوماسية كاملة، وعلى رغم من ان الدول العربية جميعاً تقيم علاقات دبلوماسية كاملة في الوقت الحاضر وكذلك علاقات ثقافية جيدة مع الصين، ولكن من الملاحظ أن الهاجس الأميركي أو العامل يظل حاضراً بقوة لدى الجانبين الصيني والعربي على رغم ان علاقة كل منهما متينة وقوية ولا سيما على المستوى الرسمي ولكن يحكمها نوع من الخوف والحذر والترقب، بالنسبة لبلدان الشرق الأوسط يرى كثير من المراقبين السياسيين أنه قد بات في الوقت الحاضر خاضعاً للسيطرة الأميركية الكاملة وخصوصاً بعد سقوط العراق تحت القبضة الأميركية العسكرية في مارس/ آذار 2003، وقبل ذلك أفغانستان وهذه هي تداعيات حوادث سبتمبر/ أيلول 2001، وكان طبيعياً بعد كل هذه التطورات أن تروج أميركا لمشروعها الشرق أوسط الكبير والذي يضم إلى جانب الدول العربية في المشرق والمغرب دولة «إسرائيل» وأفغانستان وباكستان، وبغض النظر عن ردود الفعل العربية الغاضبة الوقتية وهي ردات فعل ليس إلا، إذ لا تلبث أن تضعف وتتلاشى، كما ان الدول العربية على صورتها الأحادية لا تملك الإرادة السياسية والقوة فما بالك بالقوة العسكرية لكي تدعم بها القضية الفلسطينية والتي تراوح في مكانها منذ اغتصاب فلسطين 1948، إن موقف الدول العربية ضعيف للغاية فهل تستطيع الصين أن تلعب دوراً قوياً وفاعلاً في حل قضية الشرق الأوسط وإحلال السلام والأمن، والسؤال الذي يفرض نفسه هل ستسمح أميركا للصين أن تلعب أو تكون لاعباً دولياً فاعلاً في عملية السلام المتعثرة شأنها شأن الاتحاد الاوروبي، وان التحدي الاهم الذي تواجهه الصين هو تحقيق الإصلاح السياسي والاقتصادي والتنمية السلمية والرخاء لشعبها، وأميركا ترقب كل هذا الاهتمام وحذر خوفاً من بروز هذا التنين الأصفر كقوة عظمى، كما ان الغرب وأميركا بصورة خاصة في ذهول من نمو الصين السريع، إنه إعجاب واحترام في الوقت نفسه لهذا الإنجاز الاقتصادي المتصاعد ولكن لا يخلو من خوف لأنه قد يتحول في المستقبل إلى تهديد لأميركا في العقود القادمة القريبة، ويزيد من هذه المظاهر السلبية تجاه الصين ولا سيما في دوائر الحكم ومعاهد التخطيط الاستراتيجية الأميركية الخلافات التجارية المتفاقمة بين البلدين. هل تمثل الصين تحدياً استراتيجياً لأميركا؟ لكن المصالح المشتركة للبلدين تحول دون التصادم والمواجهة وإحلال المناخ السلمي والتسليم الصيني للتفوق الأميركي والريادة في هذا العالم، المهم هو تحقيق نمو سريع ليس في الصين فقط وإنما لإقليم آسيا والمحيط الهادي وتحول مركز الاقتصاد العالمي إلى آسيا وعلو مكانتها دولياً ولكن ليس على حساب اوروبا وأميركا، إن المنافع والمصالح بين الصين وأميركا تتطلب شراكة بين البلدين.
إذ لا بد من التعاون وتعزيز الاتصالات بين القطبين في مختلف المجالات الحيوية والمهمة وعلى مختلف المستويات الرسمية، يقول الصينيون أن هناك تهويلاً مبالغاً فيه لنمو القوة العسكرية الصينية هذا ما نلمسه من تصريحات المسئولين العسكريين وعلى رأسهم وزير الدفاع الأميركي رامسفيلد الذي زار الصين في سبتمبر/ أيلول وفحوى هذه التصريحات تنامي القوة العسكرية الصينية والفعاليات الاقتصادية على نحو متسارع، وركز على حقوق الإنسان، الشراكة الديمقراطية، وهذه مقولات معادة ومكررة من الجانب الأميركي.
وفي ختام هذه الحلقة أود أن أؤكد اعجابي الشديد بأميركا وشعبها الطيب متعدد الاعراق والثقافات ونشاطه الجم في مختلف الميادين وحيويته المتدفقة، ومن خلال عملي الدبلوماسي في خمس بلدان هي لبنان وإيران وأميركا والصين وآخرها تونس، تبقى أميركا من أكثرها قرباً إلى نفسي وماثلة في وجداني، وقد تجولت في كثير من ولاياتها ومدنها من فلوريدا وولندا ومدينة ديزني الزاهرة إلى كليفورنيا وتاكساس، ومدينة أطلنتيك الحميمة بشتى ألعابها المسلية البريئة منها وغير ذلك، ودرة مدنها وولاياتها التفاحة الكبيرة واللذيذة المذاق والفاتحة للشهية مدينة نيويورك منهاتن العملاقة بناطحاتها والتي ارتفعت في سمائها وذلك في أواخر القرن التاسع عشر وبرجي التجارة الدولية المدمرين.
أم دبلوماسيوها فمن الصعب أن أنسى السفير الأميركي باركر إبان أول عمل دبلوماسي في بيروت العام 1977 و1979، إنه مستشرق فذ أحب اللغة العربية وتبحر في علومها وآدابها وثقافاتها، وأصبح قريباً من مزاج العرب وعفويتهم وانفعالاتهم، ربطتني به علاقة طيبة وقد آثر بعد تقاعده العيش في المغرب العربي ليمضي فيه بقية عمره، وفي الصين تعرفت على السفير الأميركي جمس ليلي والذي يجيد اللغة الصينية كتابة ونطقاً أعجبني نشاطه الدبلوماسي في بكين، وأصبح بعد تركه لبكين نائب وزير الدفاع الأميركي أثناء ولاية الرئيس بوش الأب العام 1991، وخلال حقبة الثمانينات إبان عملي في الأمم المتحدة في نيويورك فهل ينسى المرء السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة جين كير بترك وهي محافظة جداً وأقرب إلى غلاة المحافظين الأميركيين في البيت الأبيض حالياً، وفي أروقة الأمم المتحدة آنذاك أثار السفير الإسرائيلي نتنياهو فضول جميع الدبلوماسيين بصلفه وغروره عنجهيته إنه فض وغليظ، وكان في الأساس محام في نيويورك.
ولا يملك المرء إلا أن يبدي إعجابه وتقديره للسيناتور الأميركي فاندلي وكتابه الموسوم والقيم «من يجرؤ على الكلام» وكيف احتفى السفراء العرب بكتابه هذا في مدينة بروكلين، وأذكر أننا قد اقتنينا نسخاً كثيرة من كتابه لأنه كان نصيراً للعرب ولقضية فلسطين، ومدينة بروكلين هذه تعج بالمهاجرين العرب من يمنيين ولبنانيين وآخرين، وأخيراِ لا بد من الإشادة بنشاط السفير الأميركي الحالي في لبنان جفري فلتمان، تعرفت عليه خلال عملي في تونس، كان الرجل الثاني في السفارة الأميركية بتونس وهو يجيد اللغة العربية كتابة ونطقاً، إن ما ذكرته هو قطرة من فيض، وما أريد قوله يجب أن نقوي علاقتنا بأميركا ونحافظ عليها وذلك من موقف قوي ومتفهم وأن نحافظ على هذه العلاقة وننميها أسوة بما تفعله الصين في هذا المجال.
إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"العدد 1266 - الأربعاء 22 فبراير 2006م الموافق 23 محرم 1427هـ