تحالف «القلم والقفطان» يدل في جانبٍ مهمٍ من دلالاته على حال العزلة التي يعيشها كل طرف. فما الدافع لاقتران الليبرالية المتقلبة داعية «لنا الحق كله»، مع داعية التعصّب الاقصائي المتطرّف «لنا الدين كله»، الذي يتلذّذ بالدعاء على «الآخر» بيومٍ أسود؟ هل هي مصادفةٌ تاريخيةٌ عمياء، أم انها روح الاستبداد المتأصل لدى تلك الفئات الضئيلة القدر في المجتمع، والاستعداد لتقديم الخدمات «الأمنية» لمن يريد؟
تجاربُ سنواتٍ طويلةٍ تحمل الكثير من الادانات الوطنية لهؤلاء اللاعبين واللاعبات، آخرها «تبرير» صدور أحكامٍ متشدّدةٍ على المتهمين في حادثة المطار. لو كان هناك قليلٌ من الذوق والوازع الأخلاقي لما تمّ التورط في مثل هذا الدفاع المفضوح عن قضيةٍ خاطئة. أحكامٌ يقول عنها المحامون انها مبالغٌ فيها جداً، وبتعبير أكثر صدقاً: «أحكامٌ ظالمة»، فهي مخالفة للقوانين الدولية وشرعة حقوق الإنسان، ولكن مادام الحكم أرادها فلابد من تبريرها والدفاع عنها، لتشربها عوائل المحكومين مثل «العشرق»!
السقطة الأخيرة، هو ذلك الالتقاء الليبرالي التعصبي المشبوه في يومٍ واحد، بين طرفين تفصلهما بحورٌ من الخلافات والشتائم والتكفير! لكنهما التقيا أخيراً على طريق الفتنة والإثارة الطائفية والتحريض الأمني، كأن هذا الوطن مقدّر عليه أن لا ينام ليلةً واحدةً قرير العين. على أن ما جمع بين الرأسين في صبيحة عرس الفتنة، هو انهما لا يقرآن، وإذا قرآ لا يفهمان، وإذا فهما فإنهما يتأوّلان!
العبارة التي أثارت حفيظتهما - وهي قديمة كما اتضح للجميع - من العبارات المألوفة في الكتابات التي تتناول حادثة كربلاء التاريخية، ومذ كنا صغاراً ونحن نسمع ونقرأ عبارات مشابهة: «كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء»، ولم يتبادر إلى أذهان البحرينيين قطّ موضوع فتنة طائفية ولا تهديد للوحدة الوطنية. فالعبارة إذن عبارةٌ تقليديةٌ تماماً، كلاسيكية تماماً، وليس فيها مدلولٌ على تهديدٍ موهومٍ، إلاّ أن يُراد الزجّ بهذا الوطن الصغير في صراعٍ أكبر من حجمه، بإقحام الملف النووي الإيراني في قضايانا الداخلية بهذه الصورة الفجّة.
ومن المؤكد أن «المتصيدين» لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، ليس فقط عن وقائع التاريخ الإسلامي القديم، وانما يجهلون أيضاً تاريخ هذا الشعب الطيب واندماج طوائفه وأعراقه في بوتقة الوطن. تكفي شهادة يرويها النقابي والسجين السياسي المخضرم عبدالله مطيويع، أحد أبناء المحرق الطيبة، حين تسلّم راتبه الأول قبل 45 عاماً، وذهب به إلى والدته رحمها الله، فاستخصت منه مبلغاً من المال، وقالت له: «انه نذرٌ عليّ، عندما تتسلم أول راتب سأدفع منه لمأتم الحيّاك»، واشترت به سجاداً للمأتم المذكور.
أم عبدالله رحمها الله لم تكن وحيدةً، ففعلها مألوف ومعروف في حياتنا المشتركة، حتى في موسم عاشوراء الأخير، كان الكثيرون من أهل المحرق يحملون القدور الكبيرة إلى المآتم للإسهام في تقديم «عيش الحسين»، وبعضهم من أبناء تيار السلف الصالح الحقيقيين. نماذجُ بحرينيةٌ يعتز بها الوطن، في زمن الجعجعة الطائفية، إذ يختلط الحابل الليبرالي بالنابل المتعصب، إذ يبيتان على مائدة زواج الفتنة!
عزاؤك وعزاؤنا يا بحرين التسامح والمحبة... انهم سيظلون قلة ضئيلة منبوذة في هذا الوطن.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1265 - الثلثاء 21 فبراير 2006م الموافق 22 محرم 1427هـ