ليس من الشيم الحميدة أو الأخلاق المستحبة التعليق على حوادث وأناس يمثلون أمام المحاكمة، مهما كان جرمهم فظيعاً وعملهم مخزياً، إلاّ أن المتابع لابد أن يجد نفسه، والزمته الحوادث أن يعلق على ما يراه من صور وأقوال منقولة على شاشات التلفاز لمحاكمات صدام حسين ومن معه من المتهمين. الموضوع هنا يتعدى الذاتي لينتقل إلى الموضوعي.
الملاحظة العامة الملفتة هي استخدام رمز «العفة» أو عدمها في الإشارات الضمنية المبطنة أو الصريحة في مداخلات صدام وأخيه (غير الشقيق) برزان. الأخ غير الشقيق كان أكثر ما يثيره في الصحافة إبان الاحتلال العراقي للكويت، ليس الحديث عن السرقات أو القتل العشوائي أو حتى فعل الاحتلال نفسه، بل كان أكثر ما يثيره هو الإشارة إلى انه الأخ غير الشقيق لصدام حسين! وفعلاً لفت انتباهي ذلك إبان صدور صحيفة «صوت الكويت»، ويرسل مهدداً من مكانه في جنيف وقتها ومتوعداً بعظائم الأمور، ويطلب بإصرار إسقاط الإشارة تلك، ويدعي للغرابة أنها «تعريض بالأمهات».
وفي المحاكمات نرى الاثنين (صدام وأخي غير الشقيق) يستخدمان الإشارات الرمزية نفسها. فمن الماجدات إلى «الشوارب» إلى شتيمة «الأمهات»، وكلها معانٍ تتعلق بالشرف والعفة والرجولة والنخوة... وهي معانٍ ترددت في خطابات صدام حسين الكثيرة، وهي تعني عقلاً ريفياً منقطعاً عن عالم اليوم.
دارسو هذا الأمر من أهل الاجتماع يرونها مفاهيم متعلقة بالمجتمع الزراعي الذي نشأ وترعرع فيه صدام حسين من إخوانه إلى أبناء عمومته من أهل البيجات، الذين هيأت لهم بعد فترة زمنية، القبض على مقدرات العراق وأهله وسوموه وسومهم العذاب. لعل تفسير ذلك كله في نشأة الأخوة غير الأشقاء، وفي كتاب مشبع بالتفاصيل صدر أخيراً بعنوان «الحياة السرية» لصدام حسين، كتبه الكاتب البريطاني كون كوغن، وهو ليس الكتاب الأول ولا أظنه الأخير الذي يتعرض لما أصبح معروفاً من سيرة ذاتية مضطربة لرئيس العراق المخلوع، خصوصاً نشأته في الصغر. يتابع القارئ في هذا الكتاب العلاقة المسمومة التي رافقت نشأة صدم حسين الصبي الذي عرف ولم يعرف والده بسبب الضباب الكامل على شخصية ذلك الوالد، فالقيمة المركزية لهذه الشخصية من الناحية العائلية هي (الأم)، وهي أيضاً ارتكاز الإخوة غير الأشقاء، الذين تسلموا فيما بعد مراكز حساسة ومفصلية في إدارة العراق تحت مظلة الأخ غير الشقيق.
مركزية الأم كما يراها علماء النفس تعني من ضمن ما تعني أن صدام تضخمت لديه عقدة أوديب ضد الأب (المجهول) أو المُجهل، كما ضاعف من هذه العقدة تولي زوج أم قاسي لا يرحم وأم تعمل (بصارة) بين البيوت، تخضع لهذا الرجل القاسي الغريب الذي كان يدعى إبراهيم الكذاب، لأنه ادعى لأبناء قريته، أنه أدى فريضة الحج إلى مكة والكل يعرف في القرية انه لم يفعل، إلاّ أن تعدد زواج الأم من أكثر من زوج، كما توالوا بعد ذلك، تركت الابن يعيش على كراهية زوج أم وغياب والد فطري، وعبادة شخصية الأم التي يكبرها صدام بإفراط لدرجة بناء ضريح ضخم بعد وفاتها في تكريت، وكتب على شاهد القبر «ترقد هنا أم المناضلين»، ويعني هذا التعلق المرضي بالأم، تعلقاً بالأنثى، وتجاهلاً للأب مصدر الفخر عادة في المجتمع القبلي الزراعي.
ولم يكفل الطفل عندما يفع إلاّ خال (محب للخصام سيئ الطبع) وهو خير الله طلفاح، الذي شكل للطفل المُشكل بديلاً لشخصية الأب في سنواته التكوينية الأولى، إلى درجة القتل من أجله، عندما قتل الولد (صدام) سعدون التكريتي، الذي اعتقد الخال انه وشى به لدى السلطات بعد تعيينه كمدير للتربية ومن ثم فصله من العمل. لقد قتل سعدون بإطلاق رصاصة واحدة من مسدس على رأسه وهو عائد إلى البيت في ليلة مظلمة، وكان الفاعل صدام الذي لم يبلغ سنّ الحلم وقتها.
مولود مخلص، ضابط تكريتي آخر لعب دوراً مهماً بل محورياً في إدخال عدد كبير من أبناء تكريت إلى الجيش العراقي، كان مقرباً من النظام الملكي، وبصفته تلك فتح الباب واسعاً لأبناء تكريت من ذوي الخلفية الزراعية الذين تدفقوا للانخراط في الجيش، وأصبح متاحاً لهم بعد سنين تكوين عصبة مكنتهم من الإمساك بمقدرات البلاد، وقتل صدام بعد سنين من ذلك التاريخ ابن ذلك الرجل بتهمة الخيانة!
لم يكن صدام حسين بغافل عن تربيته الفظة وهو صغير وبالألم الذي صاحبها، فكل كتاب سيرته الرسميين، من أمير اسكندر مروراً بفؤاد مطر وانتهاء بسعيد أبوريش، ألمحوا من خلال سردهم انه كان طفلاً كئيباً، وأن مولده ليس مناسبة سعيدة يتذكرها. كان طفلاً يعتدى عليه دائماً فتعلم أن يكون فظاً لرد توقع الاعتداء. هذه الطفولة المضطربة جعلت صدام شخصاً شكاكاً في من حوله، يتربص بغيره لأنه يعتقد أنهم يتربصون به. لقد عاش في مجتمع بلا قانون، وهو المجتمع الزراعي العراقي في الأربعينات، ولما دخل المدرسة وهو في سن متقدم نسبياً نال من السخرية من اقرانه ما جعله يؤكد وحشية المحيط بالانتقام منه.
سلسلة من قتلهم صدام حسين مباشرة هي سلسلة طويلة، والمحاكمة التي تجرى له حتى الآن هي محاكمة قتلى منطقة الدجيل التي صفي أبناؤها من دون رحمة أو فرق بين كبير وصغير، رجل أو امرأة وطفل. ولكنها ليست على فظاعتها الوحيدة من الأعمال الانتقامية التي قام بها. فهو في أي تهديد، حقيقي أو متخيل لشخصه، يلجأ إلى التصفية الجسدية.
عبد الكريم الشيخلي طالب الطب في بغداد والمثقف والمنظر لحزب البعث، رافق صدام حسين رفقة طويلة، بل كان الأخير يصرح انه أخوه ورفيقه، فقد كان معه في زمرة محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم في أكتوبر/ تشرين الأول 1959، وانتهى معه في منفى القاهرة، ثم عادا معاً إلى العراق، وسجنا معاً بعد ذلك بين عامي 64 و66 حتى هروبهما من السجن معاً. بل إن البعض يعتقد، بسبب عدم وجود تاريخ محدد لميلاد صدام حسين، انه استعار موعد ميلاد ذلك البغدادي ابن العائلة لينسبه إليه، 27 أبريل/ نيسان 38. بعد هذه العشرة الطويلة وفي بداية السبعينات أعفي الشيخلي من منصبه كونه وزير خارجية العراق المرموق وقتها، وعيّن مندوباً للعراق في الأمم المتحدة، ولم يكن الخلاف اديولوجياً كما أريد له، بل عرف لاحقاً أن عبدالكريم الشيخلي الرجل المثقف وابن العائلة البغدادية، كان عازباً، وكان صدام حسين يتمنى أن تكون أخته زوجة الصديق الأنيق، كما كان في الوقت نفسه يلمح له من قبل أحمد حسن البكر، رئيس الجمهورية وقتها، بأن يتأهل وزير الخارجية من إحدى بناته، ولأنه لم يرد أن يقع بين المطرقة والسندان، تزوّج بزوجة من اختياره، وفي أسبوع زواجه، أعفي من المنصب وطرد خارج العراق، ولما عاد بعد عقد من السنين، وبعد وصول صدام حسين إلى الرئاسة، لم ينس صدام حسين الإساءة فاغتيل العام 1980 وهو يزور دائرة بريد بغداد ليسدّد فواتير الهاتف!
ومن الحلقة الصغيرة الرفاق المحيطين ببداية صدام حسين لم ينج أحد من التصفية والانتقام، بينهم اثنان من أقرب أصدقائه، إبراهيم جمعة ونعيم الاعظمي، كان سادياً في التصفية، يتلذذ بها.
هكذا يلعب موضوع «الماجدات» دوراً مركزياً في سيرة صدام حسين، ظل يطارد اللاوعي الداخلي له حتى تقديمه للمحاكمة، بل أن أحد مرتكزات ادعائه للهجوم على الكويت، وردّد ذلك أكثر من مرة، ادعاء معاملة «الماجدات» في الكويت بشكل سلبي!
كان سؤال الكثيرين: لماذا لم ينتحر صدام حسين بعد خسارته الفادحة، وخصوصاً انه هرب عن الأنظار لفترة 7 أشهر، وكان الرأي ان شخصية صدام التي نشأت على حب جارف للذات لا تنتحر، فالانتحار فعل مدني لا ريفي، وطريق صدام حسين في بناء جهاز قمعي بالغ القسوة، والتصفيات التي قام بها في عربدة العنف طوال سني حكمه، تؤكد أن مثل هذه الشخصية تبحث عن مخارج عندما تحاصر إنقاذاً للنفس. لا تنتحر، بل تحاول حبك تعاطف نفاذ، وما حمل صدام حسين للمصحف الشريف بحجمه الكبير في يده أثناء ظهوره في المحاكمة إلاّ واحداً من التحايل النفسي المقصود به التقوى، بعد أن عرف عنه دائماً بأنه يستمتع بكأس من «الجوني ووكر»، وسيجارٍ من هافانا.
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1264 - الإثنين 20 فبراير 2006م الموافق 21 محرم 1427هـ