إنها لمصادفة غريبة أنه في الوقت الذي يبرز فيه موضوع «حرية التعبير» إلى صدارة اهتمامات العالم ووسائل إعلامه، إثر نشر «الرسوم الشيطانية»، أن يتدارس مجلس النواب لدينا حالياً صوغ قانون لـ «تنظيم» الصحافة والطباعة والنشر!
حرية التعبير لا تختلف عن غيرها من المفاهيم الخاضعة لتفسيرات متنوعة ولتطبيقات متضاربة، حسب الظروف ومقتضيات الزمان والمكان، ولسنا هنا للدخول في متاهة تلك التفسيرات وتطبيقاتها، لكن ما نود إبرازه فقط هو الفارق الحضاري الشاسع بين المفهوم الغربي لتلك الحرية ومفهومنا العربي الضيق لها.
لا يختلف اثنان أنه رغم تحفظاتنا على مفهومهم لحرية التعبير ولما تتصف به من بعض الازدواجية المقيتة، إلا أن من المؤكد أن تلك الحرية من أهـم دعائم مجتمعاتهم التي لا تخضع لأي تنازل، ولا يمكن قبول أي انتقاص منها. انظروا إلى موقف الاتحاد الأوروبي حين أراد نصرة الدنمارك، سياسياً لجأ إلى تغليف موقفه بشعار «وقوفه إلى جانب حرية التعبير»، فكان له ما أراد من حصد هذا التأييد الشعبي الكاسح الذي لا يفرط بهذه الحرية كأهم مكتسباته.
هذه هي حرية التعبير لديهم، وهذا هو موقعها في سلم أولوياتهم، فكيف هي عندنا؟ أرجو متابعة ما يحمله قانون تنظيم الصحافة والطباعة والنشر المعمول به حالياً، لتروا إلى أي حد يجعل من التعبير «قزماً»، في ظل هذه المحظورات التي صنفها القانون ضمن «الجرائم» التي ينص عليها قانون العقوبات، إذ جاء ليؤكد في بداية كل مادة منه القول: «مع عدم الاخلال بأية عقوبة أشـد ينص عليها قانون العقوبات أو أي قانون آخر»! أي أنها تخضع لأشـدّ ما نصت عليه القوانين من عقاب!
اقرأوا الباب الثالث من قانون المطبوعات لدينا، الذي يبدأ بمعسول الكلام عن الصحافة، واصفاً اياها بأنها «تؤدي رسالتها بحرية واستقلال، وتستهدف تهيئة المناخ الحر لنمو المجتمع وارتقائه بالمعرفة المستنيرة وبالاسهام في الاهتداء للحلول الأفضل في كل ما يتعلق بمصالح الوطن وصالح المواطنين»... (خوش كلام!)، لكن المواد التي تضمنها الباب الثالث نفسه وضعت من القيود والحواجز التعجيزية ما جعل هذا الكلام مجرد تعريف انشائي جميل الصياغة عديم المفعول! خصوصاً حين أفرد فصلاً كاملاً عن «الجرائم التي تقع بواسطة النشر»، والتي تقود الواحدة منها مرتكبها الى غياهب السجون والعياذ بالله!
نصيحة خالصة لوجه الله: تريدون صحافة حرة، أعيدوا النظر في الباب الثالث من قانون تنظيم الصحافة (أو ألغوه) وذلك هو الأفضل، فهو باب عقيم ومستفز من خلال ازدحامه بقيود (يجب/يحظر/لا يجوز/يلتزم/ يشترط/يعاقب...)، بالله عليكم، هل هذا قانون لتنظيم الصحافة أم لتكميـمها؟!
لقد امتلكت الكثير من الدول الجرأة بأن ألغت وزارة الاعلام (صاحبة هذا القانون)، فهل نمتلك شيئاً من تلك الجرأة ونصرف النظر عنه؟ أما مخالفات النشر فقد تكفل بها قانون العقوبات، أفلا يكفي هـذا؟!
تقولون بأنكم تريدون إقامة حوار مع وسائل الاعلام الغربية، حسناً، ولكن كيف سيكون بمقدوركم اقناعهم بتفهّـم موقفكم وأنتم تزحفون تحت هذا السقف الضيق من حرية التعبير التي يسمح بها ذلك القانون.
لا حاجة بنا للتذكير بما ورد في قانون تنظيم الصحافة من ان «الصحفيين مستقلون لا سلطان عليهم في أداء عملهم لغير القانون»، بل ان المادة 23 من الدستور تؤكد على أن «لكل انسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غيرهما، وذلك وفقاً للشروط والأوضاع التي يبـينها القانون»، وعلى هذا يجب أن يأتي القانون متناغماً مع روح هذا التوجه الدستوري، أما أن يضع العوائق والشروط والالتزامات التي تفـرغ تلك الحرية من محتواها، وتنحرف بها عن قصد المشّرع فانه بذلك يتبنى حرية للرأي والتعبير، ولكن «مع وقف التنفيذ»!
وعموماً... نحن لدينا كل الثقة في قضاتنا لإيماننا بأن العدالة تكمن في ضمـير القاضي وليسـت في نصوص القوانين... أليـس كذلـك؟!
إقرأ أيضا لـ "سلمان صالح تقي"العدد 1264 - الإثنين 20 فبراير 2006م الموافق 21 محرم 1427هـ