العدد 1263 - الأحد 19 فبراير 2006م الموافق 20 محرم 1427هـ

تشطير المجتمع

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

لعل من أصعب المهمات وأكثرها عناء في حياة المجتمعات هي الدمج والتأليف بين مختلفات المجتمع، ذلك أنها مهمة تعالج الأفكار، وتفرض نفسها على السلوك، وتعيد تركيب الخلفيات التاريخية، أو على أقل التقادير تبرمج أسلوب التعامل مع الكم الهائل من قصص التاريخ ومفردات حقبه المشتتة بين سنوات ماضيه الطويل.

إنها مهمة يصعب فصلها عن مصالح المجتمعات، فكلما رشد المجتمع ووعى مصالحه، وأعطاها أولوية النظر والمعالجة، اندفع جاداً لإحلالها في سلم أولوياته، وعبّد الطريق الطويل كي ينجز مهمته التاريخية، وسعى صابراً ومثابراً إلى رفع العوائق مهما كان ثقلها وهيمنتها على تفكير المجتمع ومهما كان أثرها في رسم مساراته.

لقد أطلعنا القرآن الكريم على عملية تشطيرية مُورست بأدوات خبيثة وماكرة سلكها فرعون في مجتمعه فحوّله إلى شتات متناثر، متباعد القوى، مفكك الأواصر، يعيش أهله شيعاً ومجموعات تفتقد الجامع بينها، محكومة في أخص حقوقها التي ترتبط بعقيدتها وعبادتها وقناعاتها الدينية، فهي جميعها لم تسلم من التطاول الفرعوني، يقول الله تعالى عن لسان فرعون حين رأى بعض قومه اتخذوا قرارهم في العقيدة التي لا يرتضيها فآمنوا بنبي الله موسى: «قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة» (الأعراف: 123). أمور كثيرة رافقت الظاهرة الفرعونية، أشار القرآن الكريم إليها وأكد بعض الوسائل التي استخدمها فرعون لتشطير مجتمعه وتمزيقه، وإحلال الفرقة بين فئاته.

في الظاهرة الفرعونية هذه يغيب العامل الخارجي، الذي اعتدنا أن نلصق به مصائبنا وآثامنا، ونحمله أوزار الفرقة والتشتت التي تخيم على مجتمعاتنا، فتقلب نهارها ليلاً وأملها يأساً وإحباطاً. ومع غياب العامل الخارجي وتلاشيه تماماً، يظهر التوجيه القرآني جلياً في تأكيده العوامل الداخلية، وأثرها البليغ في تفتيت الألفة الاجتماعية، وتمزيق التلاحم الداخلي، من دون أن يخفى على كل عاقل أن هذا لا يعني تجاهلاً لأثر العامل الخارجي، وقدرته على الاستفادة من الأرضية التي يهيئها المناخ الاجتماعي له ليبث دواعي الفرقة والتشتت.

أولى الوسائل الداخلية التي أنتجت الفرقة والانشطار في قوم موسى هي الدكتاتورية والتسلط الذي كان عليه فرعون في طريقة تعامله وتعاطيه مع المجتمع لقد عبر القرآن الكريم عن تسلطه ودكتاتوريته بقوله: «إن فرعون علا في الأرض» (القصص: 4)، هذا العلو والتسلط على رقاب الناس، ما كان ليتسنى ويستمر لفرعون إلاّ بما ذكره القرآن الكريم في قوله تعالى «وجعل أهلها شيعاً» (القصص: 4). فالكيانات المتناثرة والمتباعدة في المجتمع الواحد هي التي مكنت فرعون (الدكتاتور) من التلاعب بأوراق الفرقة والتشتت كي يحافظ على عرشه، ويمارس المزيد من استعباده للناس «يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين»(القصص: 4).

الدكتاتورية الفرعونية غذت الانشطار، والانشطارات أكّدت التسلط والهيمنة، لأن التلاحم الاجتماعي لا يخدم الظلم كثيراً، وتعاطي المجتمع مع بعضه لا يوجد انشغالاً بينياً، يشغل المجتمع بعضه ببعض، ولا يوجد اصطفافات تترامى على الحاكم مستجدية رضاه ومستنصرة إياه ضد بقية الشرائح والوجودات الاجتماعية.

وحده الشتات والتمزق يمكنه أن يحمي الظلم، ويطيل أمد الدكتاتورية، ليستمر ليل الاستعباد، وتئن المجتمعات بالعذاب لأنها تصبح وسائل وأيدي يبطش الظالم ببعضها على البعض الآخر ويهدّد وجوده (الآخر) بإطلاق يد العبث والتطاول من جهة ضد أخرى. أما الوسيلة الثانية التي تبدو حاضرة في مجتمع النبي موسى (ع) المتشطر فهي تسيده للرأي الواحد، وتغييب بقية الآراء، بل شطبها من الوجود، ومنعها من حقها الطبيعي في التمدد والتعبير عن نفسها في المجتمع «قال فرعون ما اريكم الا ما أرى، وما أهديكم الا سبيل الرشاد» (غافر: 29). فإذا كان المجتمع لا يرى الا رأياً واحداً ولا يسمع إلاّ بأذن واحدة، وإذا كانت المعلومات والآراء تتدفق اليه عبر مصفاة لا تقبل إلا حجماً معيناً، آنئذٍ ومع غياب بقية الآراء والتصورات تغيب الوجودات، وتختفي من الشاشات بقية الأرقام، ويقع المجتمع في المحذور، إذ يكون منقسماً إلى شطر حاضر يتربع على كل شيء، ولا يُري المجتمع إلا ما يرى، وأشطار تصطف إلى بعضها ليس لها من الحضور إلا أجساد أتباعها الكادحة في بناء صرح المجتمع، والمساهمة في إعلاء مكانته، في حين يغيب حضورها العلمي ويطمس على آرائها، وتصبح كفاءاتها في مهبّ الريح، لا تقدر كفاءاتها إلا مقرونة بالشطر الذي توجد فيه، فإن كانت في الشطر المتربع أخذت طريقها وأعطت ما عندها، وإن كانت في الشطر المشطوب فهي موجود غائب وحاضر ميت... لا حول لها ولا عطاء ولا مشاركة.

إن الاعتقاد القائل إن الرأي الواحد هو الضمان الأكيد لمجتمع قوي ومتلاحم، وإن حرية الآراء وانفتاح المجتمع عليها هو سبب رئيسي لشتات الأمر وفرقة المجتمع، ونشوء الخصومات بين أبنائه، هذا الاعتقاد تخالفه تجارب المجتمعات والشعوب التي حرضت أبناءها على التعاون، ودفعتهم نحو المشتركات، وشرّعت أبوابها تستقبل الكفاءات والقدرات مع ما هي عليه من آراء وأفكار ومشارب فانتجت التقدم وصنعت لمجتمعاتها حضوراً بين الأمم.

الوسيلة الثالثة في إبقاء الشتات ونشره كثقافة يتعصب لها المجتمع، هي نشر الجهل وترسيخه في نفوس الناس. فالمعرفة والعلم لا يثمران إلاّ الحكمة التي تقود بدورها الى التعاون والمشاركة والتعاضد في سبيل بنيان قوي مكين، يرفع أهله بين الأمم، وينافسهم بتنوعه في استباق الخير، وفي الوقت ذاته يصبح جاهزاً ومتهيئاً لمواجهة اعتداءات الطامعين، منيعا ضد مخططاتهم وكيدهم. لقد شخص النبي موسى قومه وعرف سماتهم وصفاتهم، وقد وصفهم في قوله تعالى «قال انكم قوم تجهلون» (الأعراف: 138)، فانتشار الجهل في أي مجتمع يتبعه انحطاط وأمراض خطيرة على رأسها الشتات والضياع والتطاحن، وغياب المصالح، وأخيراً الفهم المقلوب للرسالات السماوية، وتحريكها بطريقة معاكسة لما جاءت به من إحياء وبعث للإنسانية جمعاء.

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 1263 - الأحد 19 فبراير 2006م الموافق 20 محرم 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً