لم يكن أحدٌ في هذا الشرق التعيس يصدّق الولايات المتحدة الأميركية يوم زحفت على المنطقة، تحت دعوى عريضة: التحرير!
لم يكن هناك أحدٌ في هذا الشرق يصدّق هذه المراوغة، فالكلّ هنا كان يعرف تماماً أنها لم تأت إلاّ للاستيلاء على حقول النفط، وترتيب الوضع ليستتب لها الأمر للبقاء طويلاً طويلاً، للحصول على أهم سلع العصر: «النفط»، برخص التراب.
حتى الأطراف التي «شبعت» من الظلم قروناً وقروناً، لم تكن تصدّق هذه الأكذوبة الكبرى، وخصوصاً أنها أول من دفع الثمن في أعقاب حرب الخليج الثانية العام 1991، بعد أن أعطى بوش الأب الضوء الأخضر للنظام العراقي السابق لقمع المحافظات التي انتفضت ضد الحكم الدكتاتوري المستبد.
مثل هذا الشعب الذي تعرّض للحصار لأكثر من عقد، وتعرّض للطعن بالخنجر الأميركي عند انتفاضته، لم يكن ليصدّق أن الأميركان جاءوا لإنقاذه من مخالب الدكتاتورية، حتى تتهمهم «إحداهن» بالإستعانة بالأميركان، وتطلقها «حدوتةً» مرسلة!
ثم إن الاميركيين لما جاءوا بجحافلهم لغزو العراق، لم يستأذنوا الحركات والأحزاب السياسية، ولا الشخصيات والمرجعيات الدينية في النجف الأشرف أو الأزهر الشريف أو مكة المكرمة. ومن الخيال العقيم والبلاهة السياسية تصوّر مثل ذلك، فما كانت الولايات المتحدة الأميركية في طورها الأمبراطوري الجديد لتقبل أن تأخذ إذناً أو تتلقى مشورة من معمّم أو «أفندي» أو سارق مصرف!
العراقيون الذين طال قهرهم وإذلالهم وسبيهم في سلاسل المقابر الجماعية طوال 30 عاماً، وسط صمتٍ عربيٍّ مخزٍ على مستوى الأنظمة والشعوب، ما كان لهم إلاّ أن يردّدوا الدعاء المأثور: «اللهم اشغل الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين»، وهذا ما يفسّر لنا عدم تصدي الشعب العراقي للغزو، على رغم ما عُرِف عنه من نخوةٍ وشهامةٍ وإباء، حتى محافظات الغرب، وبالتالي سرعة سقوط العراق في ثلاثة أسابيع، وبغداد خلال يوم واحد فقط، على رغم كلّ بلاغات الصحّاف وعنتريات صدّام.
الغزو الأميركي الذي هندسه تشيني ورامسفيلد، ابتدأ بكذبةٍ كبرى: «التحرير» ونشر الديمقراطية، وينتهي اليوم بسلسلةٍ من الحماقات المتوالية. قبل أسبوع جالوا على عددٍ من الدول العربية ليورّطوها بإرسال قواتها إلى المحرقة، ولا تدري الشعوب العربية إن كانت سترفض دولها الاستجابة للأميركان أم أنها ستجاريهم كما حدث بداية الغزو، حين فتحت مطاراتها وقواعدها لضرب العراق، ثم أخذت تتباكى على عروبة العراق «الشقيق» حتى جفّت دموعها!
آخر الحماقات، أو الفضائح، أو المخازي، هذه الحلقات من مسلسل الإجرام في السجون العراقية، فالقوة «المحرِّرة» أصبح جنودها يمارسون أقذر أساليب التعذيب ضد العراقيين، من كهرباء وحرق وسلخ الجلود، تماماً كما يفعل جلاوزة أي نظام عربي متخلف.
ولأنها قوةٌ مفلسةٌ أخلاقياً، استباح جنودها استخدام أسوأ أساليب الإذلال النفسي بتعرية السجناء وتعليقهم من أرجلهم في السرير، أو تعريضهم لإهانات جنسية، فيما يظهر الجندي الاميركي «المنتصر» يضحك على عذابات الضحية.
العراقيون يتمنون رحيل المحتل سريعاً، اليوم قبل الغد، فقد أذقتموهم ألواناً جديدة من العذاب فاتت حتى على صدام حسين نفسه! فيا أيها الأميركيون «المتحضّرون»، «الديمقراطيون»، كفى... فالشرق لا يتسع لمزيد من البلطجية بعد اليوم!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1262 - السبت 18 فبراير 2006م الموافق 19 محرم 1427هـ