ليس جديداً القول إن السياسة الأميركية تعتمد ازدواجية المعايير في علاقاتها الدولية. فهذا الكلام أصبح مملاً من كثرة تكراره ولم يعد بحاجة إلى التأكيد في اعتبار أن إدارة واشنطن لا تخفي هذا النوع من الازدواجية في رؤيتها العالمية لمواقع الأطراف من مصالحها. فالإدارة نفسها متطرفة ايديولوجيا وهي تبني سياستها على أساس المصالح فتهادن من يهادن وتواجه من يواجه بغض النظر عن مواقف الأطراف من الحرية والمساواة وحقوق الإنسان والديمقراطية وتمكين المرأة. فكل هذه المفردات مجرد ترهات حين تصطدم دولة ما بمصالح أميركا. فالمصلحة أولاً والايديولوجيا هي في خدمة المصالح. ومن يفكر عكس ذلك يكون كمن يقرأ السياسة من دون علم أو تجربة.
الديمقراطية المطروحة على المنطقة العربية/ الإسلامية مقفلة على مختلف الاتجاهات وتعتمد على خيار واحد ومن يخالفه تعاقبه الإدارة على تمرده ورفضه الاملاءات.
الازدواجية في المعايير إذاً هي أصل التفكير السياسي الأميركي في شقيه الايديولوجي والبراغماتي. وهذا الأصل في التفكير المزدوج يقوم على قاعدة واحدة: المصالح وسياسة حمايتها وضمانها.
هناك الكثير من الأمثلة يمكن تقديمها لتوضيح صورة الازدواجية في المعايير وخصوصاً تلك المتعلقة بـ «إسرائيل» واللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة... وقرارات الكونغرس. آخر الأمثلة ذاك القرار الذي اتخذه الكونغرس بغالبية 418 صوتاً ضد صوت واحد بشأن حركة «حماس» بعد فوزها بالانتخابات الديمقراطية في الضفة الغربية وقطاع غزة. فالكونغرس طالب الإدارة بغالبية 99,999 في المئة بوقف المساعدات ومعاقبة الشعب الفلسطيني على ممارسة حقه في الاختيار.
المشكلة لا تتوقف عند هذا الحد. فهناك إلى جانب القرار الذي يذكر العالم بما تقوله الولايات المتحدة عن برلمانات العالم الثالث، مسألة ايديولوجية أخذت تظهر في قواعد وقيادات الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وتتركز المسألة على نقطة مهمة وهي توجيه انتقادات للإدارة التي اخطأت في تقدير المواقف وموازين القوى السياسية حين سمحت بإجراء انتخابات في العراق ومصر وفلسطين اعطت فرصة لخصوم الولايات المتحدة باجتياز العقبات ودخول البرلمانات.
المسألة إذاً ليست بحاجة إلى توضيح. فالازدواجية تجاوزت حدود المنطق. فالكونغرس من دون أن يعلن ذلك بات يدافع عن الدكتاتورية ويبرر الاستبداد والقمع ومطاردة الحريات إذا كانت كل هذه العناوين تضمن مصالح الولايات المتحدة. فالمصلحة أولاً حتى لو اضطرت واشنطن للدفاع عن الطغاة والطغيان.
هذا الكونغرس الذي يدعي أنه منارة الاشعاع والحرية لم يتردد في دعوة إدارته إلى إعادة النظر في سياسة نشر الديمقراطية في مجتمعات عربية وإسلامية تميل إلى خيارات تعاكس مصالحها.
أيضاً الإدارة الايديولوجية المتطرفة ليست بعيدة عن تصورات الكونغرس. فالعقل واحد حتى لو اختلفت المخيلة في قراءة المتغيرات الدولية. فهذه الإدارة التي تتحكم بها ايديولوجية «المحافظين الجدد» طالبت الكونغرس بالموافقة على رصد موازنة 75 مليون دولار في العام 2006 لترويج الديمقراطية في إيران.
هذا الطلب أسوأ من سياسة ازدواجية المعايير. فهو يطالب بإنفاق مبالغ من المال في بلد يعتمد سياسة تداول السلطة. فكل أربع سنوات هناك انتخابات برلمانية ورئاسية وبلدية. وفي كل دورة هناك وجوه تصعد إلى المجلس التشريعي مقابل وجوه تغيب. وداخل البرلمان توجد تيارات وتكتلات وتحالفات ومناقشات. وقرارات المجلس تؤخذ بالتفاوض والتصويت وضمن معايير قانونية تلتزم بالدستور وضوابطه.
لكن يبدو أن هذا النوع من الديمقراطية لا يعجب الإدارة الأميركية ولا الكونغرس. فالمطلوب من الشعب الإيراني كما ترى أدوات الشر في البيت الأبيض تغيير قياداته حتى تنسجم الديمقراطية مع المصالح الأميركية. أي أن الديمقراطية التي تعترف بها الولايات المتحدة هي تلك المقفلة الأبواب وتسير في اتجاه واحد ووظيفتها السياسية تلبية المصالح الأميركية. وإذا كانت الديمقراطية تلبي مصالح الشعب الإيراني فهذه ليست ديمقراطية ويجب على دافع الضرائب الأميركي أن يمول أو يروج «الديمقراطية» التي تناسب مزاج تيار «المحافظين الجدد» في واشنطن.
أيضاً المسألة لا تقف عند هذا الحد في ازدواجية المعايير. وهذا هو حال «حماس» في فلسطين المحتلة. فحتى إذا كانت الديمقراطية وفق التصورات الأميركية ولكنها جلبت إلى السلطة التشريعية غالبية لا تنسجم مع مصالح واشنطن ولا تلبي رغباتها السياسية فعلى الإدارة بالتكافل والتضامن مع الكونغرس معاقبة الشعب الذي تجرأ وصوت إلى كتلة تعارض توجهات تيار «المحافظين الجدد».
الموضوع إذاً مقفل من كل الاتجاهات. ومخارج الديمقراطية ومداخلها يجب أن تصب نتائجها في دائرة المصالح الأميركية... والا فإن السلوك الآخر هو العودة إلى دعم وتعزيز وتغذية وتغطية الاستبداد والطغيان والتخلف وما تنتج عنه من تفرعات كالفوضى والظلم والإرهاب
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1261 - الجمعة 17 فبراير 2006م الموافق 18 محرم 1427هـ