في القرن السابع عشر قطعت أوروبا الكثير من المسافات في تحقيق التقدم العمراني وتطوير الوعي المعرفي. فهذا القرن أسس في نهاياته ما سيعرف لاحقاً بعصر الأنوار (أو التنوير) الذي امتد إلى نهاية القرن الثامن عشر مختتماً سنواته بالثورتين: الأميركية والفرنسية.
هذا الطريق الطويل لم يتأسس على فراع. وأفكار الفلاسفة لم تتأسس من خارج أطر الشروط الموضوعية للتطور. فالمعرفة آنذاك كانت حاجة سياسية/ اجتماعية، وشكلت أفكار الفلاسفة استجابة ذاتية لواقع موضوعي أخذ يفرض شروطه ويدفع العلاقات الاجتماعية نحو المزيد من التقدم.
أوروبا آنذاك كانت تقود العالم وفي الآن كانت دول القارة تتصارع على قيادتها. فالدول النامية اخذت تتوسع خارجياً على حساب الشعوب (استعمار العالم الثالث) وفي الآن بدأت تنمو داخلياً في أطار سوقها المحلية (الدولة القومية). فالعالمية (العولمة) كانت تسير في سياق ثنائي مع تطور الوعي القومي (وحدة السوق الداخلية) الأمر الذي فرض على النخبة إعادة تعريف الدولة ووظائفها ومؤسساتها المتوارثة.
كل هذه العوامل فرضت شروطها على الفلاسفة. وهذا الأمر أسهم في إنتاج مفاهيم تبحث في قواعد نهوض الدولة الجديدة ومؤسساتها الدستورية والشروط القانونية التي يجب أن تعتمد لضبط علاقة الحاكم بالمحكوم.
هذه الحاجات القانونية (الدستورية) تصدى لها فلاسفة القرن الثامن عشر معتمدين على تلك النتاجات النظرية التي اسهم في تكوين اصولها المعرفية فلاسفة القرن السابع عشر. فالسلسلة واحدة وهي في النهاية مشدودة إلى حلقات متراصة ومتتابعة ومتداخلة أحياناً ومتعارضة في احيان. فالسلسلة هي التنوير (الوعي العقلاني لشروط التقدم) والحلقات هي مجموعة فلاسفة اجتهد كل واحد منهم برأيه محاولاً استثمار «التنوير» في تحديث الدولة وتطوير مؤسساتها الدستورية.
في هذا العصر شهدت حركة التنوير في أوروبا ولادة الكثير من حلقات التطور المعرفي (الفلسفي) وكان ابرزهم ثلاثة: مونتسكيو، ديفيد هيوم، وجان جاك روسو.
سيلعب هؤلاء الثلاثة دوراً مميزاً في التأثير على المنظومات الفكرية في أوروبا. كذلك ستترك أفكارهم الدستورية المتصلة بشئون الدولة الحديثة ودورها ووظائفها بصماتها على الأجيال المقبلة وتحديداً الرعيل الأول من قادة الثورتين الأميركية والفرنسية.
ولد مونتسكيو في نهاية القرن السابع عشر في العام 1689 (1100هـ) في فرنسا في عائلة ارستقراطية فرنسية. فهو ورث لقب «بارون» من أسرته. وبسبب موقعه الطبقي الخاص اكتشف الكثير من الثغرات في النظام الملكي، كذلك اعطاه ثقة بالنفس للسخرية من السلطات الفرنسية وفضحها.
ركز مونتسكيو كثيراً على الجانب القانوني للدولة وأظهر ضعفها وميلها للاستبداد والقهر وقمع الحريات. وبسبب إعجابه بالتجربة البريطانية (الملكية الدستورية) طالب مونتسكيو بتحديث القوانين وتطويرها في كتابه الشهير «روح الشرائع» الذي ألفه في العام 1748 (1161هـ).
في هذا الكتاب تحدث عن أنواع الدساتير وصنف الدول إلى ثلاث فئات: ملكية، استبدادية، وجمهورية. وركز على أهمية القانون في صناعة هيئة الدولة. فالقانون هو الأساس وعليه يجب أن تبني الدولة مؤسساتها. وانطلاقاً من هذه الرؤية الدستورية عارض مونتسكيو الاستبداد وتحكم القلة ودعا إلى حرية الإنسان وفصل السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، والقضائية) مؤكداً أن الحرية لا تتعارض مع احترام القانون.
أسهمت كتابات مونتسكيو في تطوير الوعي الدستوري لعلاقات الدولة بالمواطن وأثرت لاحقاً على كتابه دساتير الدول حين تحول «روح الشرائع» إلى مرجع قانوني، لرجال الدولة. فالتطور في رأي مونتسكيو له قوانين كذلك الدول تحتاج دائماً إلى قوانين لتتطور. وهذا النوع من الوعي الفلسفي للدستور أعطاه ميزة التأثير المباشر على أصحاب الدول حتى قبل وفاته في العام 1755 (1168هـ).
ديفيد هيوم البريطاني لم يكن أقل تأثيراً من الفرنسي مونتسكيو في حقول الفلسفة والسياسة. ولد هيوم في ادنبره (اسكتلندا) في العام 1711 (1123 هـ) في أسرة مرتاحة اجتماعياً. فوالده صاحب شركة عقارات ووالدته جاءت من أسرة محامين. ومنذ صغره تربى هيوم على تعلم الأصول القانونية، وهذا ما ساعده على اكتشاف الكثير من الآليات المنطقية التي وظفها في تطوير النظريات الاجتماعية والعقلانية. وهيوم في هذا الاطار يعتبر أكثر فلاسفة القرن الثامن عشر تأثيراً على المدرستين: الشك (مبدأ ديكارت) والخبرة (المذهب التجريبي). فالمعرفة الجديدة برأيه تأتي من التجربة ولا توجد إلا في العقل الذي يكتشف آلياتها من المدركات الحسية.
أحدثت فلسفة هيوم العقلانية ونزعته التجريبية هزة في سياق تطور العلوم الاجتماعية. وأسهمت مكانته العلمية في توفير فرصة سياسية له للعمل في الحقل الدبلوماسي. وبسبب اشتغاله في هذا الميدان كلف هيوم بمهمات في فرنسا وغيرها وترأس بعثات دبلوماسية وقاد مفاوضات.
لعب هذا الجمع بين الفلسفة والعمل الدبلوماسي في تركيب منهج عقلاني - اجتماعي ربط بين المثال (عالم الأفكار) والواقع (امتحان الإنسان) الذي يعتبر محك الاختبار لتلك المفاهيم. ولهذا السبب اشتهرت فلسفة هيوم بتلك الثلاثية المركبة من قواعد ثلاث: التشابه، التجاور، والأثر. والأثر هي القاعدة الأهم لأنها تقوم على نظرية السبب والنتيجة. وبفضل نظرية السببية اشتغل هيوم كثيراً على تاريخ تطور الدين والطبيعة البشرية والعقل الإنساني والسلوك الاخلاقي. وهذه المجموعات البحثية ساعدته لاحقاً على كتابة «تاريخ بريطانيا» و«تاريخ انجلترا».
جمع هيوم الكثير من العلوم وأصاب شهرة واسعة في بلاده والقارة وكان له انصار كثر في فرنسا التي عاش فيها بعض الوقت وتعرف خلال وجوده هناك على مجموعة من الفلاسفة الموسوعيين واتصل بجان جاك روسو ودعاه إلى بريطانيا حين اشتدت عليه الضغوط.
لم تستمر علاقة هيوم بالفيلسوف الفرنسي كثيراً فاختلف معه خلال فترة وجوده في بريطانيا بين العامين 1765 و1767 (1178 و1180هـ) بسبب تعارض منهجية الفيلسوف البريطاني مع نزعة روسو المتمردة على التقاليد والاجتماع. عاش هيوم إلى العام 1777 (1191 هـ) وحين غادر الدنيا كانت أميركا بدأت ثورة الاستقلال ضد دولته بريطانيا.
على المقلب الآخر (فرنسا) عاصر الفيلسوف روسو تحولات كثيرة ولكنه نظر اليها من موقع مختلف عن هيوم. فهيوم رجل دولة ورسو من النوع المتمرد الذي ينتقد المجتمع بقوة ويدعو إلى الفردية وتحرر الإنسان من القيود الاجتماعية. وهذا الأمر سيترك اثره لاحقاً على رجال الثورة الفرنسية التي ستشهدها القارة بعد سنة من انتصار الثورة الاميركية على الاستعمار البريطاني.
ولد روسو في العام 1712 (1124هـ) في سويسرا (جنيف) من أسرة بروتسنانتية. والده ساعاتي وصاحب مشكلات كثيرة اضطرته إلى الهرب من المدينة تاركاً ابنه عند رجل دين (قسيس) ليتولى تربيته.
طفولة روسو تركت أثرها على تطور شخصيته ونزقه الدائم نحو افتعال المشكلات. فهذه النفسية المشاكسة كانت ردة فعل على تربية صارمة في التعليم والتلقين. فوالده يعمل في صناعة الساعات وهي مهنة قاسية تتطلب الانضباط بالوقت والخضوع لدقات الزمن. وما فات والده تكفل القسيس باستكماله. فالتربية الدينية على الطريقة البروتستانتية تعني أيضاً الانضباط الصارم بالبيئة الثقافية وتلقين الفرد أصول الخضوع للعلاقات الاجتماعية القاسية.
هذا الوضع المشروط باحترام الوقت والخضوع للتقاليد كان كافياً لتشجيع روسو على مغادرة جنيف والهرب إلى فرنسا في العام 1728 (1140هـ). وفي بلده الجديد سيولد روسو الآخر المتمرد على الوقت والكاره للمجتمع والداعي إلى حرية الفرد (الفطرية) والناقم على المؤسسات. فهذا الشاب سيعيش فترة مراهقة صعبة وسيعاني كثيراً من القلق والتشرد والتمرد بحثاً عن شخصية تناسب هويته المضطربة.
مر روسو بتجربة صعبة سجلها لاحقاً في مذكراته (اعترافات) بسبب ضياعه وهواياته المختلفة وانقلاباته المزاجية. فهو غادر البروتستانتية والتحق بالمذهب الكاثوليكي واتجه نحو الموسيقى محاولاً وضع نظام جديد لها... وفشل في مسعاه.
لم يغادر روسو حقل الموسيقى ولكنه اخذ يطرق مجالات اخرى بحثاً عن الشهرة. فانتقل إلى باريس في العام 1741 - 1742 (1154 - 1155هـ). وهناك اشترك في مسابقة عن العلوم والفنون وفاز بجائزتها الأولى، الأمر الذي وضعه في مصاف المشاهير وأصبح محط أنظار كبار رجال الدولة والأغنياء.
نقلت الشهرة روسو من موقع إلى آخر. فالتحق بالسلك الدبلوماسي وعمل في هذا الاطار في البندقية (ايطاليا) في العامين 1743 - 1744. واكتسب من تجربته الدبلوماسية مجموعة معارف جديدة تتصل بالعلاقات الدولية ودور الدولة وموقعها ووظائفها ومكانة الفرد في الجماعة وتلك المؤسسات التي تتحكم بالمواطن وتحد من حريته (فطرته الطبيعية).
إلا أن طفولة روسو القاسية لم تغادره. فهو نقم على المجتمع في كتاباته الفلسفية وعارض النظام الاجتماعي القائم واقترح قواعد جديدة للتنمية والتعامل مع المؤسسات. ومال في كتاباته إلى الحرية الفردية مقترحاً العودة إلى فطرة الفرد الطبيعية وتحريرها من قيود التقاليد والموروثات الاجتماعية.
أسهمت هذه الأفكار التجديدية في اثارة المشكلات لروسو فارتد عن الكاثوليكية وعاد إلى البروتستانتية في العام 1754 (1167 هـ). هذا التقلب المذهبي يعكس مزاج الفيلسوف المتمرد والناقم على طفولة تحكمت فيها صناعة الوقت (الساعات) وتربية التلقين (القسيس). وجلب التقلب لروسو المزيد من المشكلات فدخل في خصومات مع فلاسفة عصره وساجل ضدهم.
آنذاك كان روسو اكتشف نفسه واعاد انتاج شخصيته المتمردة والمتقلبة على مختلف الحقول الفنية والابداعية والفلسفية، فكتب الشعر والمسرح وألف اعمالاً موسيقية وغنائية (أوبرا)... إلا أن أهم ما توصل إليه هو تأليف كتابه «العقد الاجتماعي» الذي وضعه في العام 1762 (1176هـ). فهذا الكتاب الفلسفي سيكون له دوره المهم في تكوين فكر الثورة الفرنسية، إذ سيعتمده بعض رجالها (روبسبير مثلاً) مصدراً لإعاد
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1260 - الخميس 16 فبراير 2006م الموافق 17 محرم 1427هـ