فرحت كثيراً بفوز مصر بكأس إفريقيا لكرة القدم حديثاً، مثلما فرح الرئيس المصري حسني مبارك وشعب مصر الشقيق والعرب عموماً بهذا النصر، فنحن دائماً بحاجة إلى نصر رياضي نعوض به هزائمنا الأخرى! لكن للأسف، فرحتي لم تدم طويلاً مثلما دامت فرحة الجمهور في شوارع القاهرة، فقد شرد ذهني فجأة إلى البحر الأحمر، إذ غرقت أو ربما «أغرقت» تايتانك العرب (عبارة السلام 89)، وتخيلت بعض جثث الضحايا مازالت طافية على الماء، بينها أطفال ونساء. وانتابني شعور غريب أن بعضهم ربما مازال متعلقاً بقطعة خشب أو قشة، على أمل أن ينقذوه. تركت التلفاز والكاميرات تنتقل من عاصمة إلى أخرى لتنقل أجواء الفرح، وبدأت في مخيلتي أفكار عن الضحايا وهم يصارعون الدقائق الأخيرة من رحلتهم في «العبارة»، وفي الحياة كلها، وبماذا كانوا يفكرون. ربما بعضهم غرق شيئاً فشيئاً، وهو يرنو بعينه إلى السماء على أمل رؤية أسراب الطائرات المنقذة تلوح في الأفق، لكن هيهات... فالطائرات وصلت بعد «خراب مالطا».
ربما كان أحدهم «يصبّر» الآخرين «ان السفن المنقذة في طريقها إلينا بسرعة»، فقد قرأ يوماً في صحف بلاده أن دولته أصبحت من دول العالم المتقدم،وأن لجاناً كثيرة تحارب الفساد والروتين والبيروقراطية... ولكن مرت 24 ساعة ومصدر مسئول «جداً» يقول اننا فقدنا أثر العبّارة، فربما ذهبت إلى القمر أو جبال الهملايا، وكأنها لم تبحر في خط ملاحي دولي معروف.
ربما كان أحدهم هادئاً في تلك اللحظة وسلم أمره لله، فهو يعرف أن من تهاون في الردّ لكرامة الرسول، لن يهتم بالعثور على عبَّارة صغيرة في سواد الليل. وربما كان أحدهم شجاعاً، ففكر أن موته وأفراد أسرته سيقلب الدنيا رأساً على عقب في بلاده، وسيضطر رئيس الحكومة إلى الاستقالة ويقدم وزير النقل إلى المحاكمة، أو حتى «معاتبة» «مناوب الميناء» في تلك الليلة، بل ربما تخيل أن أحدهم سينتحر مثلما يحدث في اليابان، لكن... أعمار أهل الكهف «طويلة».
ربما كان أبوالطفل «محمد» أسعد حالاً من الآخرين قليلاً، فهذا الرجل التمعت عيناه بصورة جميلة وهو يهب حياة جديدة لولده بعدما ألبسه طوق نجاته ومضى لربه، ماذا أيضاً؟
ستمر «جريمة» عبارة السلام، مثلما مرت كل الجرائم الأخرى بحق المواطنين العرب دون أن يقف عندها من يدعون «اننا» أمة تحترم الإنسان، وأن «الخلل» في الشعوب المتخلفة وليس في مكان آخر. سينسى الجميع ما حدث ولماذا وكيف حدث، ومن المسئول.. فكأس إفريقيا كفيل بالأمر.
«الجريمة» ستترك ندوباً كثيرة في ذاكرة أهالي الضحايا، لكن بالتأكيد لن تترك أثرا في «عقول وضمائر» أهل «القمة»، و«لجان التحقيق» ستسجل القضية ضد مجهول أو ضد البحر، بينما ندفع دائماً ثمن أخطاء وخطايا «النظام»
إقرأ أيضا لـ "فاضل البدري"العدد 1260 - الخميس 16 فبراير 2006م الموافق 17 محرم 1427هـ