لقد خلق الله الإنسان في مزيج من العقل والوجدان، وأراد للإنسان أن يعيش التوازن بين ما هي مقتضيات العقل وما هي متطلبات العاطفة، بحيث يعمل على تحريك عقله في كل الآفاق ليكتشف ويبدع من دون أن يسمح لأحد بمصادرة حقّه في التفكير ويعطي العاطفة مداها في كل المجالات الإنسانية التي يشعر معها الإنسان بمسئولية التفاعل مع آلام الآخرين وآمالهم. ولكن يبقى للعقل الدور القيادي في مجال تنظيم حركة العاطفة، فلا يسمح لها أن تطغى على شخصيته ليغدو في حركته ومواقفه في الحياة رجل الانفعال والارتجال، بحيث يعمل على إعطاء العاطفة جرعة من العقل لتتوازن وتنضبط ويعطي العقل في المقابل جرعة من العاطفة ليرقّ ويلين. ولذلك رأينا أن الإسلام الذي أكد منزلة العقل ومكانته السامية ودوره في الجانب العقيدي والتشريعي، كذلك في المجال الإنساني العام واكتشاف أسرار الكون والخلق، أقرّ من جهة أخرى بدور العاطفة الإنسانية في تركيز القضايا الدينية ليتفاعل معها الإنسان فكرياً وروحياً، مضافاً إلى دور العاطفة في المجالات الإنسانية العامة إن لجهة الحزن أو لجهة الفرح، على أساس أن الإنسان يمثل وحدة متكاملة في ما هي حاجات الروح والعقل معاً.
وانطلاقاً من ذلك، فإننا لا نريد للعاطفة أن تطغى لتتجاوز حدود العقل وضوابط الدين، كما نرى في بعض الممارسات التي قد تحصل في كثير من المناسبات الدينية اليهودية أو المسيحية أو الإسلامية وما إلى ذلك، ومن ذلك ما قد يحصل في ذكرى عاشوراء من تعبيرات عن الحزن والمأساة كإدماء الرؤوس والظهور بما لا يتناسب مع الأجواء المألوفة والطبيعية للتعبير عن الحزن فضلاً عن إساءتها لمقاصد أهداف النهضة الحسينية. لكننا في الوقت الذي نؤكد ضرورة تفاعل الإنسان المؤمن مع قضايا دينية فكرياً وعاطفياً، عقلاً وقلباً، ونؤكد أيضاً أن منهج التعاطي مع هذه القضايا ومحاكمتها هو منهج عقلي لا عاطفي تحكمه الحجة والبرهان فحسب، وانطلاقاً من ذلك فلا يجوز لدى مواجهة الفكر الآخر محاكمته بطريقة عاطفية تستنفر مشاعر الناس وتعمل على تأليب الرأي العام ضده، كما يحصل لدى الكثير من الأوساط الدينية التي قد تعمل لإسقاط بعض الرموز وبعض الشخصيات العلمية بطريقة تأجيج المشاعر لا بطريقة محاكمة الرأي على أساس نقده بالحجة والبرهان.
ولذلك فإننا نرفض الأسلوب الترهيبي الذي يعمد إلى استغلال عواطف الناس المؤمنين والمتدينين وصولاً إلى استغلال الدين نفسه في محاولة لإسقاط الآخرين وإضفاء نوع من القداسة على بعض رجالات الدين، بحيث تمنع من توجيه النقد إليهم بحجة أن نقدهم يمثّل نقداً للدين نفسه، ونحن في الوقت الذي نرفض هذا الأسلوب الذي قد يستخدمه المتدينون، نرفض في المقابل إضفاء هالة من القداسة العلمية أو السياسية أو الرمزية على بعض الشخصيات غير الدينية بما يجعلها فوق النقد أو اعتبار توجيه النقد إليها توهيناً لها وللموقع الطائفي أو السياسي الذي تنتمي إليه. إن مسألة النقد في نظرنا لا بد من أن تبقى متاحة ومشروعة ليتم الاستناد إليها في التعامل مع كل الشخصيات التي لا تملك العصمة في ذاتها، سواء أكانت شخصيات دينية أم علمانية أم غيرها ممن لها علاقة بالشأن العام، فإن النقد البنّاء والهادف يثري الفكر ويصوّب الرأي ويسدد الخطى ويدفع بالتجارب نحو النجاح.
ولهذا، فنحن في الوقت الذي نرفض استخدام الدين عنصراً تخديرياً لإسكات الآخر، نرفض أيضاً أن يستخدم في الجانب الانفعالي العشوائي، إذ لا يجوز نصرة الدين بأعمال انفعالية ضد الدين نفسه، ونحن نرى أنه لا يعيب الدين تحريك عاطفة المسلمين لنصرة قضاياهم كما حصل ويحصل بالنسبة إلى الإساءة إلى رسول الله(ص)، لا بل إننا نرى بهذا التفاعل الوجداني مع رسول الله (ص) دليلٌ على أهمية الإسلام من حيث حضوره في وجدان الأمة وضميرها ما قد لا يتوافر لدى أتباع الأديان الأخرى بهذا المنسوب من الاندفاع والتفاعل.
لكننا نؤكد أن العاطفة الإسلامية التي هي موضع تقديرنا لا يجوز أن تتجاوز الضوابط الشرعية التي أكدها القرآن الكريم بقوله تعالى: «ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى» (8: المائدة)، وأكدها رسول الله (ص) من خلال قوله وفعله ووصاياه المعروفة لأمراء الحرب بألا يعتدوا ولا يضربوا شيخاً ولا امرأة ولا يقطعوا شجرة ولا يمثّلوا... إلى غير ذلك من الوصايا التي تؤكد عدم تجاوز الحدود الشرعية كالاعتداء على الأملاك العامة وعلى ضرورة التعاطي بإيجابية كبرى مع الرسل والمبعوثين والممثلين للمواقع التي يختلف المسلمون معها، وقد قال الله تعالى: «ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى» (164: الانعام). وإن على العلماء أيضاً والقياديين والمؤسسات الإسلامية أن تعمل على ترشيد العاطفة في خط القضايا الإسلامية والتخطيط لحركتها بما يخدم مصالح الأمة ولا يشوّه سمعة الإسلام والمسلمين، فلا تتحول المشاعر النبيلة إلى ممارسات خاطئة تسيء إلى الإسلام وإلى رسول الله، في الوقت الذي ينبغي علينا أن نستفيد من هذه الأجواء التي خلقتها بعض وسائل الإعلام الغربية لتقديم الإسلام على صورته الحقيقية والاستفادة حتى من هذا الهجوم السلبي لتعريف الناس، وخصوصاً الشعوب الغربية على قيم الرحمة والعفو والسماح في شخصية رسول الله (ص) والتي لا يدنو إليها أحد في سموها وعظمتها وإنسانيتها.
إننا نقول للمسلمين جميعاً: إن واحدة من أهم صفات رسول (ص) أنه استطاع بخلقه العظيم وصبره الكبير وحكمته البالغة. أن يحوّل ألدّ أعدائه إلى أصدقاء ومدافعين عنه، فعليهم أن يستهدوا بهذه السيرة وفي هذه الأجواء السياسية المحمومة في كل أساليبهم السياسية والتعبيرية والعاطفية حتى لا يحوّلوا أصدقاءهم في العالم إلى أعداء، الأمر الذي قد يكون بمثابة الهدف الأساسي للذين قاموا بهذه الإساءة وحركوا هذه الأجواء.
ونحن في الوقت الذي نرفض الإساءة إلى مقدساتنا التي تأتي من خارج الوسط الإسلامي، نريد لهذا الوسط أن يكون مسئولاً، فلا يعتدي بالإساءة أو الشتم على مقدسات الآخرين، وكذلك على المقدسات في داخله، أو على الرموز التي هي محل احترام وتقدير من هذا المذهب أو ذاك. فنحن لا نريد أن ننهي الآخرين عن خلق سيئ ثم نأتي بمثله، ولذلك نعتبر أن الإهانات التي توجه إلى هذه الرموز والتي لا تتوافق مع النقد العلمي والبنّاء، هي من المحرمات، إضافة إلى كونها ترهق الواقع الإسلامي وتدخله في نطاق الفتنة المذهبية التي يسعى الاستكبار إلى تحريكها في أكثر من موقع من مواقع العالم الإسلامي، كما في العراق وباكستان وأفغانستان وغيرها... ولذلك فعلينا أن نتقي الله في كلماتنا وأفعالنا وفي جميع خطواتنا، لأن كل عمل يضعف الواقع الإسلامي ويؤدي إلى اهتزاز الوحدة الإسلامية، يدخل في سلسلة الجرائم والخيانات التي تنعكس على الأمة كلها بالضرر والخسران.
مرجع ديني
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1260 - الخميس 16 فبراير 2006م الموافق 17 محرم 1427هـ