يرى الإنسان العالم من خلال مساحة ضيقة ومحدودة من بؤرة النظر وهامشه، لكن عينه لا تستطيع رؤية المشهد الذي أمامه بكل تفاصيله، فنجده إذا أراد أن يركز بصره على جزئية انشغل عن أخرى، لذا يقولون «عين على عين... ورأي على رأي» إشارة للحاجة للآخرين. لا أحد يدرك الواقع أو يصل للحقيقة... وحده.
وتعد المفاهيم أدوات الفهم للواقع، فالعقل يستقبل الصور ويدرك الأحداث، لكنه يرتبها بناء على المفاهيم الكامنة فيه والتي تعينه على إعادة ترتيب الواقع والوقائع بما يمنحها المعنى والدلالة.
لذا كانت المفاهيم هي الخيط الناظم والأداة الرابطة لشتات المشاهدات وتنوع العلاقات والأحداث التي يمر بها الإنسان.
وللمفاهيم مثل كل الظواهر - المجردة واللغوية المرتبطة بالإنسان - أبعادها المركبة والعميقة.
فهناك البعد الأصولي أو البصمة الجينية للمفهوم، كيف وُلد أو لماذا مات، ولماذا قد يُبعث حيا في لحظة تاريخية ما... ويتم استدعاؤه في سياق اجتماعي أو سياسي من الذاكرة ليصبح المفهوم الحاكم والمهيمن على العقول؟.
المفاهيم كيانات رخوة، جذورها اللغوية قوية لكنها تنمو متجاوزة هذه الجذور، لذلك نجد أن المفاهيم تمر بأطوار، وقد يمكن تعديلها وتجديدها، مثل ما يمكن اختطافها وتوظيفها بعيدا عن المقاصد التي كانت منوطة بتحقيقها.
والمفاهيم لها علاقة بالمكان، فهي تتحرك في مساحات، لذلك قد تضيق مساحات التوظيف فتخنق المفهوم، وقد تتسع دلالات المعنى فيتشظى المفهوم وتتبعثر معانيه.
والمفاهيم لها علاقة بالوجود، بالذات الإنسانية وكيف تعتبر المفهوم تعبيرا عنها أو منقذا من الضلال، أو تنظر له بعداء وتراه تهديدا لكينونتها ومؤديا لسوء المآل.
خذ مثالا لذلك مفهوم الديمقراطية، فله جذوره في اليونانية، وهو ارتبط بنموذج دولة المدينة، وفي نشأته أقصى النساء والعبيد والأجانب وكان من يشاركون في ديمقراطية أثينا ثلث السكان أو أقل، مع هيمنة كاملة للأكبر سنا وتمييز واضح للقبيلة كأساس للتمثيل.
تطور المفهوم في مسيرة التاريخ، اختطفته الليبرالية وزعمت أنها ديمقراطية لتوري سوأة السوق الحر وشراسته، ثم استعادتها الاشتاركية لتطور رؤيتها السياسية بعيدا عن فكرة الحزب الواحد التي أوردتها المهالك، ثم هاجر المفهوم لعالم الإسلام على جناح قوى الاستعمار الجديد، فأفسدت جهود مشاركة السلطة التي كانت تسير بالفعل على يد قوى وطنية وتبلبلت الألسنة بخطاب ليبرالي يخلط عولمة السوق باستيراد الديمقراطية فتم إجهاض نهضة وطنية في هذا الاتجاه لصالح مؤشرات ليس لها مضمون حقيقي ولا تحقق حرية فعلية للشعوب.
هل يمكن تحرير المفهوم من أسر ماضيه ومن توظيف المهيمنين عليه؟
وارد وقد يحدث، لكن هذا يستلزم مقايسات مع مفاهيم أخرى أصلية في الثقافة وتحديد سقف التمازج وحدود التقاطع.
خذ مثالا آخر هو مفهوم الدين. كان في أصله رسالة تحرير للإنسان ثم صار يقترن بالطاعة العمياء واستقالة العقل واتباع السلطة - الدينية أو التوظيفات السياسية، واختلط الحابل بالنابل وتنازع مفهوم الدين أطراف متعددة من الأنظمة الباطشة التي لم تشم رائحة «دستور المدينة» ولا تفقه شيئا في النموذج الحضاري الإسلامي، للجماعات المعارضة التي تريد تأسيس إسلام الأعراب ولا تعرف عن إسلام محمد إلا القليل، إلى الجماهير التي تريد إسلاما بلا ثمن، إسلاما يزين الحوائط ويخلق مساحات للتواصل الفردي، لكنه لا يمنح الطاقة لحركات تغيير تريد للناس كرامتها وحريتها وتنهض بالعالم... ويدفع به الناس ثمن التغيير في معركة التقاليد وفي مواجهة الهيمنة. وانظر لمفهوم التدين، كيف صار مختزلا في الطقوس وغاب عنه الوعي بالدور التاريخي وبالبعد الثوري في الإسلام في العلاقات الاجتماعية وتوزيع الثروة. في محاضرة أخيرة علمت طلابي أن المجتمع الذي ليس فيه عدل في المال أو شورى في الأمر ولا يقدم العدالة الاجتماعية على ماعداها هو مجتمع يكذب بالدين حتى لو أقام مسجدا في كل شارع وميدان.
مفهوم ثالث هو مفهوم الوطن، من روابط المدن المحدودة لعوالم الامبراطوريات الضخمة، يبقى الوعي بالذات وطبيعة العلاقة بالجماعة المحيطة وتصورات العالم هي التي تشكل مفهوم الوطن. وفي ظل تطور وسائل الاتصال أضحى الوطن ليس هو حدود العالم، بل اتسع العالم وراء الوطن، وصار البشر قادرين على تغيير أوطانهم وولاءاتهم وجنسياتهم، لكن هل يمكن للإنسان أن يعيش بلا وطن، وهل يمكن أن يمحو ذاكرته ويسكن المكان - من دون ذاكرة أو زمن؟ وهل يمكن أن تتعدد الأوطان؟ ومتى تتبدد الأوطان؟ ومتى تخون الأوطان أبناءها ومتى يبيعون هم الوطن بثمن بخس... كراسي معدودات؟
بل خذ مفهوم المرأة! هل نقصد بها المرأة في سنوات الشباب، أم المرأة المتزوجة، أم المرأة العاملة، أم المرأة الوحيدة، أم الأم؟ أم المواطنة؟ فكل واحدة من تلك التصنيفات ترتب رؤية للمجال العام والخاص، وهي لا تنسجم بالضرورة ولا تنتظم من خلال ضربة عصا سحرية، بل تلك مساحات ومجالات وقدرات وأدوار قد تتقاطع وقد تتعارض. فأي مرأة ومن يمثل قطاعات النساء، ومن قال إن فوارق الطبقة الاجتماعية والخلفية الثقافية والفئة العمرية لا تتعارض مع تصنيف جامع مانع؟ وأية رؤية أيديولوجية تحكم المرأة؟ هل هناك مظالم تضم كل نساء العالم؟ وهل تنضم المرأة الفلسطينية والمرأة الصهيونية في صندوق واحد باعتبارهن «نساء»؟ حاشا لله. ومتى ينبغي أن نتوقف عن استخدام توصيف امرأة لنستبدله بمفهوم: إنسان. فهل في كل المواقف يحكم المرأة كونها مرأة أم هي في الأصل إنسان وفي دوائر كثيرة نحن نبني على المشترك الإنساني ومقاصد الشرع التي جاءت للكافة؟
هذا عن المفاهيم التي ألفناها ونحتاج إعادة النظر في المعاني التي رانت عليها بما كسبنا.
فماذا عن المفاهيم التي تحتاج إلى ثورة؟
وماذا عن مفهوم الثورة، الثورة على الإيقاع الرتيب، وعلى الاستئناس بالركود والخوف من التغيير وعدم الرغبة في تحمل المخاطرة.
وماذا عن ثورة المفاهيم التي نتداولها والتي ألبسناها الزينة وهي تفتقر للجمال، والمفاهيم التي ماتت لكنها تبدو مثل جسد سليمان على كرسيه، نخدمها كما خدمت الجن في مملكته وهي قد غادرت الحياة من دون أن ندري.
هناك مفاهيم تحتاج لتصحيح، ومفاهيم تحتاج لتحرير، ومفاهيم تحتاج لرد لأصولها، ومفاهيم تحتاج ترحيل من أوطاننا، ومفاهيم نحتاج أن نجوب العالم كي نحصلها ونبني بها صرحا، ومفاهيم وأدناها نحتاج أن ننفض عنها التراب ونرد لها وجودها، ومفاهيم تحتاج إصلاح وتأديب، ومفاهيم تحتاج ضبط وتهذيب، أو دمج وتقريب.
لكن المفهوم الأهم في هذا المسعى هو مفهومنا الرئيس والمركزي: مفهوم الإنسان.
أي إنسان نريد ، وما هو أفق المعنى للإنسان الذي ننشد؟ وكيف نعيد بناء ما تهدم من أحلامه وطموحاته، وكيف نغرس له جذورا في الأرض لينمو حتى ولو طالت فروع شجرته ونمت خارج المكان.
لم يعد في عالمنا ثورات كالتي شهدتها القرون الماضية، الثورة الآن في المفاهيم، وقبل غزو الأوطان كان غزو العقول بمفاهيم، ولعل معركة التحرير تبدأ بثورة المفاهيم التي يمكن عبرها إعادة بناء ثقافة مختلفة للنهضة. والله أعلم.
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2454 - الإثنين 25 مايو 2009م الموافق 30 جمادى الأولى 1430هـ