ما يحدث في العراق هذه الأيام من تطورات متسارعة على المسارين السياسي والعسكري، وفي فترة وجيزة، تشبه إلى حد بعيد حدوث سلسلة من «الانقلابات» العسكرية والسياسية التي طالما شهدها العراق في القرن الماضي.
الانقلاب الأول والأهم هو «المحادثات» التي تجري حالياً بين الحكومة العراقية والقوات الأميركية من جهة والمقاومة العراقية وشيوخ العشائر العربية السنية من جهة أخرى، إذ ان هذه المحادثات تجري على أعلى المستويات، وآخر اجتماع جرى بحضور رئيس الحكومة ابراهيم الجعفري ومسئولين كبار أمنيين وعسكريين، في حين حضرها عن الجانب الأميركي قائد القوات الاميركية جورج كايسي شخصياً.
هذا المستوى الرفيع من الحضور له مؤشرات مهمة من حيث أهمية وجدية هذه المحادثات التي ستغير مجرى الأوضاع في العراق كثيراً، بعد أن كان المسئولون الأميركيون وبينهم جورج بوش، يؤكدون أن أميركا «لا ولن» تتفاوض مع المسلحين أو الارهابيين، كما أن المقاومة العراقية كانت ترفض حتى فكرة التفاوض مع المحتل.
هذا الانقلاب نتج عنه سلسلة من الانقلابات الأخرى، أبرزها «الطلاق بالثلاثة» بين المقاومة وجماعة «الزوقاوي» ومطاردة عناصره من بيت لبيت، ومن مدينة لأخرى، عبر تشكيل جبهة تحرير العراق في المنطقة الغربية ومثلث الموت في «اللطيفية والاسكندرية واليوسفية والمحمودية وجبلة» الواقعة جنوب بغداد وشمال محافظة بابل، بل إن تصريح شيخ عشيرة الكرابلة أسامة الجدعان بأن الجبهة اعتقلت في أسبوع واحد فقط نحو 400 أرهابي من مختلف الجنسيات «بضمنها عراقية» وتؤمن حالياً حدود العراق مع سورية والاردن والسعودية، والقوات العراقية تحكم الطوق على الزرقاوي نفسه في منطقة جبال حمرين التابعة لمحافظة صلاح الدين، يؤكد بشكل قاطع أن المحادثات جدية ومثمرة، وانتقلت من التنسيق إلى التنفيذ.
هذا الانقلاب بداية حقيقية لإعادة ترتيب البيت العراقي من الداخل، وإنهاء التمرد الدموي الذي شهده وما يزال العراق بعد سقوط نظام صدام حسين.
الانقلاب الآخر هو «الصمت الإيجابي» للمرجعيات الدينية وعلماءالدين في العملية السياسية، إذ لم تتدخل «وهذا مؤكد» المرجعيات الدينية في النجف الأشرف في ترشيح قائمة الإئتلاف العراقي الموحد لابراهيم الجعفري الذي اختير لمنصب رئاسة الوزراء بعد منافسة شديدة داخل القائمة كادت أن تحدث انشقاقات حقيقية في صفوفها. والأمر نفسه حدث مع هيئة علماء المسلمين، إذ نأت هي الأخرى بنفسها أيضاً عن الحوادث في الآونة الأخيرة، فاسحةً المجال للأحزاب السياسية التي طالما حيّدتها سابقاً عن العملية السياسية.
الإنقلاب الثالث هو تراجع حدّة الخطاب «الطائفي والعدائي» بين الأطراف وتغليب لغة السياسة والمصلحة الوطنية، فلم نعد نسمع مثلاً مصطلحات الصفويين والايرانيين والبعثيين المجرمين، وغيرها من المفردات التي تشكّك في الآخر بشكل مطلق ورفعت من وتيرة الاحتقان الطائفي.
وأعتقد جازماً أن العراق على أعتاب مرحلة سياسية و«توافقية» متقدمة، وأنه خرج فعلاً من «النفق المظلم» الذي وضع فيه «عنوة» منذ سقوط الصنم.
العراق سيشهد عهداً جديداً من التعايش بين مختلف مكوناته وطوائفه، ويجري الإعداد لذلك بهدوء وحس وطني بعد أن أيقنت جميع الأطراف أن المسار الأول الذي سلكته في المرحلة الماضية «لم ولن» يصل بأحد الى ما يصبو إليه، وان لغة الحوار والديمقراطية والبرلمان والشفافية ستوصل الكل الى ما يريد ولو بالحد الادنى.
حياة أخرى تصنع الآن في العراق تولد من رحم الموت، في بلد يرفض الوقوف على ساكن
إقرأ أيضا لـ "فاضل البدري"العدد 1259 - الأربعاء 15 فبراير 2006م الموافق 16 محرم 1427هـ