اهتزت أركان الدنيا على وقع المواجهة الساخنة، التي أشعلها نشر الصحيفة الدنماركية «يولاندس بوستن» لاثني عشر رسماً كاريكاتورياً، تسيء إلى نبي الإسلام الكريم، وتزري بالدين الإسلامي، وتعطي له في ذهن القراء صورة دين العنف والدموية. وبقدر ما غضب المسلمون من اندونيسيا شرقاً إلى المغرب غرباً، قفزاً إلى مسلمي أوروبا، فخرجوا في مظاهرات صاخبة حارقة، دفاعاً عن إسلامهم ونبيهم، بقدر ما استثار الأمر أوروبا العلمانية، فردت على الغضبة الإسلامية بغضبة مضادة، تعددت مظاهرها!
وفي حين صور كثير من علماء المسلمين هذه «الهجمة الصليبية» على مقدسات أكثر من مليار من المسلمين على أنها تترجم حقيقة ثقافة العنصرية والكراهية والتحريض، التي تغوص في العقول والقلوب الأوروبية، والغربية «اليهومسيحية» عموماً، ما يعكس ثقافة قديمة تتجدد، فإن تيارات أوروبية ترجمت الأمر كله على أنه لا يعدو نقداً حراً مسموحاً به، لثقافة العنف الكامنة في الصدور الإسلامية! وأخطر ما في الأمر كله، أن مشعلي الحرب، أو المواجهة الدينية على الجبهتين هم الآن الأكثر نشاطاً وتحريضاً على تبادل الهجوم والردود العنيفة، بهدف تأكيد ادعاء أن المسألة ليست مجرد خلافات إعلامية وسياسية وأمنية تعكر العلاقات بين الحضارتين، بل هي مواجهة دينية بين الإسلام وحضارته من ناحية، والمسيحية واليهودية من ناحية أخرى، تستعيد بشكل من الأشكال عصور الحروب الصليبية، التي تخفت وراء الشعارات الدينية، لتحقيق مكاسب سياسية وتجارية، لكنها في النهاية تركت جروحاً نافذة في مسار العلاقات حتى الآن! وفي اعتقادي أنه كان من الممكن معالجة الخطيئة التي ارتكبتها الصحيفة الدنماركية في سبتمبر الماضي، واحتواء تداعياتها بشيء من الحوار والمصارحة، لولا أن المناخ السياسي الدولي، معبأ بكثير من العقد والخلافات والألغام، منها ما هو قديم ومنها ما هو جديد، وقد وجد كل طريقه إلى الرأي العام في الناحيتين، تارة بالنقد حتى لو كان لاذعاً، وتارة بالهجوم العنيف المسيء، وتارة بالهزء والسخرية من ثقافات وعقائد الآخرين باسم حرية الرأي والتعبير، وتارة بالعنف والإثارة أو بالتجاهل والتقاعس! وبسرعة متوقعة أصبحت الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة، ميدان المواجهة ذات الطابع الديني الفكري السياسي، بين معسكرين متواجهين يتمترس كل منهما وراء تراث طويل من القيم والثقافة المختلفة، فبعض ما هو محرم هنا مسموح به هناك والعكس صحيح، وكثير مما يراه معظم المسلمين مقدساً له حرمة خاصة لا يجوز المساس به نقداً أو مراجعة، يراه معظم الغربيين جائزاً ومسموحاً ومطلوباً نقده، بما في ذلك المحرمات الدينية!
وهذا جانب واحد من جوانب اختلاف الثقافات وتناقض المفاهيم وتنوع القيم وتراكم الموروث عبر القرون، التي اختلفت فيها المسارات بين المسلمين وبين الأوروبيين المسيحيين واليهود وخصوصاً، بعد أن تخطت أوروبا عصور الانغلاق والتخلف ومحاكم التفتيش وتحالف الكنيسة الكاثوليكية وإقطاع الأمراء والملوك والحكام باسم الله في الأرض. وحين ثارت أوروبا «الجديدة» ضد هذا التحالف القهري، جاءت «بعقد النهضة» وانطلاق الليبرالية الحديثة والأفكار المنفتحة الرافضة لسلطة الكنيسة الدنيوية واستبداد الحكام أنصاف الآلهة المقدسين، ومن ثم عصفت بكثير من المقدسات والمحرمات التي فرضتها الكنيسة مع الملوك على الشعوب باسم الرب وقدسيته، والأنبياء وتقديسهم، مقابل فرض قيم الحرية والعدالة والمساواة لصالح البشر، وهذا هو جوهر الثقافة المسيطرة على الغرب منذ أواخر القرن السادس عشر حتى الآن، وإن تعددت التنويعات، بحكم تعدد المراحل والتطورات والفلسفات السائدة والمتطورة.
وهذه طبعاً ثقافة مختلفة، عن الثقافات السائدة في العالم الإسلامي شكلاً وموضوعاً، على رغم كل ما يقال عن اللقاء والحوار الإسلامي المسيحي، أو حوار الأديان، أو المصالحة بين أبناء إبراهيم من أصحاب الديانات السماوية، فالمسلمون يرفضون الثقافة الغربية بقيمها هذه، حتى وإن استعاروا بعضها في تطوير حياتهم العامة، بل هناك تيارات إسلامية متشددة تتمسك بتكفير كل أصحاب هذه الثقافة، بحجة خروجهم على الدين والتناقض مع ما جاء به موسى وعيسى وبالتالي محمد (ع). وفي المقابل، هناك من يقول إن اليهودية والمسيحية، فقط ديانة الرب المنزلة وموسى وعيسي نبيا الله الموحى لهما، ومن ثم ينكرون الإسلام ديناً سماوياً ومحمداً نبياً والقرآن كتاباً منزلاً، ولذلك يضعون الإسلام خارج نطاق التقديس، وفي مصاف أديان مثل البوذية والكونفوشية... إلخ.
وقد شهدت العقود الأخيرة «صحوة دينية» على الجانبين، صعدت «الصحوة الإسلامية» لدينا، وبدأت موجات «العودة إلى الله... والكنيسة» لديهم، بينما ظلت العودة اليهودية إلى أرض الميعاد (فلسطين)، تمثل العنصر اللاعب في ساحة الخلاف القديم الجديد، بين العالمين الإسلامي والمسيحي خالطاً السياسة والدين، بين العقائد والممارسات، إلى درجة مربكة للجميع.
وفي ظل ذلك انتعشت «صناعة التضليل»، تضليل الوعي وتزييف الأفكار والمبادئ والمعتقدات، من نشر الكتب والشروح، إلى صناعة أفلام السينما والتلفزيون، إلى استغلال الصحف ووسائل الإعلام المتعددة والحديثة، ولقد تفوق الغرب بطبيعة الحال في هذا المجال تفوقاً هائلاً، بحكم تقدمه الصناعي والتكنولوجي والفكري والمعلوماتي، فأخذت المواجهة الثقافية، وربما الدينية، طابع الحروب الإعلامية الفكرية على نحو غير مسبوق، وخصوصاً بعد المصارعات السياسية العسكرية الدامية، سواء عودة الهجوم الاستعماري الغربي بقيادة الولايات المتحدة على المنطقة أو هجمات سبتمبر 2001 الدامية على نيويورك وواشنطن، أو الحروب الأميركية في أفغانستان والعراق، التي سماها الرئيس بوش بحرب الخير ضد الشر دفاعاً عن الله، فضلاً عن الاحتلال الصهيوني الدموي لفلسطين وإبادة شعبها، وصولاً إلى هجوم القنابل في العواصم الأوروبية.
لقد جرى استغلال الصحافة والإعلام بصورة سيئة لرسم صورة أسوأ للإسلام كدين وللمسلمين كشعوب، ملخصها أن الإسلام دين العنف والإرهاب وكراهية الآخرين والعنصرية والفساد والاستبداد، ونشطت تيارات التحريض في الغرب، وخصوصاً «اليمين الفاشي والديني المتطرف» الذي يستمد ثقافته من عصور ما قبل عصر النهضة، ويستعيد تهويمات تراثية، بضرورة كسر هذا «الإسلام الدموي» قبل أن يدمر الحضارة الغربية الديمقراطية المستنيرة، ومحاربة الإرهاب الإسلامي الذي يريد اغتصاب الحرية والعدالة والمساواة، لصالح رموز مثل بن لادن والظواهري والزرقاوي وأمراء طالبان وزعماء الجماعات المتشددة الأخرى، الذين صاروا هم رموز الإسلام وحاملي عقيدته في نظر الرأي العام الغربي الخاضع على مدار الساعة لغسيل مخ إعلامي وديني وسياسي هائل!
ووسط هذا الصخب والضجيج المضلل، وفي ظل جرائم الإرهاب الدموية التي ترتكبها بعض الجماعات الإسلامية، اندلعت الحرب الإعلامية الثقافية، لكي تمهد لمواجهات وربما لحروب وصدامات دينية، بين أكبر ديانتين في العالم، الإسلام والمسيحية، ومن عجب أن يستغل مبدأ حرية الصحافة والرأي والتعبير، استغلالاً سيئاً لتحقيق الهدف المبتغى من جانب المتطرفين على الناحيتين.
ونسي الجميع المبدأ الأهم وهو أن «الحرية مسئولية»، وحرية الصحافة والرأي والنقد، ينظمها الدستور والقانون، ويحددها تحديداً دقيقاً لكي لا تنفلت فتصبح فوضى، وتتسبب في إثارة الكراهية والتحريض والعنف وازدراء الأديان وثقافات الشعوب المختلفة بحكم التكوين التاريخي والميراث الفكري.
باسم حرية الصحافة والرأي والتعبير إذن، نشرت الصحيفة الدنماركية الرسوم المسيئة للإسلام ولنبيه ولعموم المسلمين، وعنها نقلت صحف أوروبية عدة، فأعادت نشر الرسوم وخصوصاً في فرنسا وإيطاليا وألمانيا والنمسا... إلخ، لتزداد نيران الغضب الإسلامي اشتعالاً وعنفاً، وليسبق الشارع بمظاهراته الحارة، ردود أفعال الحكومات، فإذا بالغرب الأوروبي، يتساءل بدهشة مصطنعة؛ لماذا كل هذا العنف والغضب؟ فيم أخطأت صحفنا، إنها تمارس حرية التعبير، ولا تستطيع الحكومات الأوروبية التدخل؟
ومن الواضح أن هذا كلام ساذج لا ينطلي على أحد، ولا يقنع صغيراً أو كبيراً، لأننا نرى ونعرف غير ذلك. يقولون إن الثقافة الديمقراطية الأوروبية، سمحت بتصوير المسيح وانتقاد المسيحية، بل السخرية منها، عبر آلاف الكتب والمقالات والمسرحيات وأفلام السينما، بحكم حرية الرأي والتعبير التي تكفلها الدساتير الغربية، فإن حدث ذلك مع المسيح والمسيحية، فلماذا لا يفعلونها مع الإسلام والرسول، وما هي الجريمة في الرسوم المنشورة إذن؟!
ونسي هؤلاء أن المبدأ الرئيسي الذي أقرته الحضارة الأوروبية ذاتها، وقامت عليه الديمقراطية، هو «ان حريتي تقف عند حدود حريتك»، وبالتالي نسي الجميع أن الإساءة إلى الإسلام والمسلمين ولنبيهم تدخل في باب حرية الآخرين في معتقداتهم، أولئك، المسلمين، الذين يحرّمون مثلاً تصوير الأنبياء وازدراء الأديان، وخصوصاً اليهودية والمسيحية. بل يتناسى هؤلاء ويتجاهلون أمراً مهمّاً آخر، وهو أن مبدأ حرية الرأي والتعبير، لا يسمح بانتهاك الخصوصية والحرية الشخصية للأفراد، ويعاقب عليها، فما بالك بانتهاك الحرية والخصوصية لأكثر من مليار شخص.
وأخيراً... إن حرية الرأي والتعبير في الغرب، تقف مقيدة عاجزة، بل مدانة، إذا جرؤت وتعرضت بنقد خفيف أو ثقيل لليهود والصهيونية، تحت مبدأ معاداة السامية، الذي صدرت من أجله قوانين وأقيمت محاكمات في الغرب، ونظمت حملات دولية رهيبة لمطاردة كل من ينتقد الصهيونية، أو يشكك في «الهولوكوست»، أو يسخر من الحاخام شارون على رغم كل جرائمه ضد الإنسانية!
لقد لخص الكاتب البريطاني المحترم روبرت فيسك الموقف كله، بقوله في «الإندبندنت» مطلع فبراير: «لو أن الرسوم المسيئة إلى نبي الإسلام، كانت إلى حاخام يهودي يرتدي القلنسوة معبأة بالقنابل، كما حدث مع رسوم النبي، لقامت الدنيا ولم تقعد، ولصكت الآذان من صخب الادعاء بمعاداة السامية...». وهذا هو مربط ا
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1258 - الثلثاء 14 فبراير 2006م الموافق 15 محرم 1427هـ