غداً تمر الذكرى الأولى على جريمة اغتيال رفيق الحريري. وحتى الآن لم تعرف الجهة التي ارتكبت الجريمة. وكل ما صدر بشأنها من تحقيقات وقرارات دولية لايزال في دائرة الشبهات.
من الآن وحتى تتجلى الصورة لابد من قراءة الوقائع السياسية التي أنتجتها جريمة الاغتيال بعد مرور سنة على وقوعها. فالحادث فتح أبواب لبنان على عاصفة دولية كشفت ضعفه وعدم قدرته على تحمل ضغوط أكبر من حجمه وإمكاناته. كذلك أسهم في خلط أوراق التحالفات المحلية ودفع الطوائف بالسير عشوائياً باتجاهات متخالفة ومتضاربة سياسياً. إلى ذلك، وضع الحادث العلاقات السورية - اللبنانية على خط التوتر العالي بسبب الاتهامات المتبادلة واقدام كل فريق على التحشيد الإعلامي/ السياسي المضاد.
حادث اغتيال الحريري يعتبر سابقة من نوعه، لا من حيث وقائع حصول الجريمة فقط، وإنما من جهة تداعياته الدولية والإقليمية. فما حصل من ردود فعل يعتبر سابقة ولا يمكن القياس عليها في حوادث مشابهة.
حوادث الاغتيال كثيرة في العالم وتحصل دائماً في هذا البلد أو ذاك. إلا أن جريمة اغتيال الحريري تحولت للمرة الأولى إلى مسألة دولية. وهذا الأمر يحصل للمرة الأولى في تاريخ الأمم المتحدة حين باتت دول مجلس الأمن معنية بالموضوع وملزمة قانونياً بمتابعته للوصول إلى الحقيقة.
هناك قرار دولي بالتقصي والمتابعة. وهذا القرار (الرقم 1595) هو أيضاً جديد من نوعه لأنه ينقل مسألة سياسية أو قضائية أو جرمية من موقعها المحلي والموضعي إلى مكان أوسع بكثير من دائرة المنطقة.
هذا القرار غير المسبوق يضاف أيضاً إلى قرار دولي آخر غير مسبوق في تاريخ الأمم المتحدة وهو ذاك المتعلق بتعديل مادة في الدستور اللبناني تجيز في حال تعديلها تجديد انتخاب (أو تمديد ولاية) رئيس الجمهورية.
القرار 1559 يعتبر بدوره سابقة في العلاقات الدولية. إذ للمرة الأولى أيضاً تتعامل الدول الكبرى بهذا النشاط مع مسألة دستورية داخلية تعني عضواً في منظمة الأمم المتحدة. وهذا الأمر يعني أن تدويل مسألة رئاسة الجمهورية استهدفت سلسلة شئون أخرى منطلقة من ذريعة محلية، بدليل أن الرئيس لم يتزحزح من مكانه ولم يأبه بما حصل وصدر بشأنه بينما غيره دفع ثمن التمديد. وهناك سلسلة طلبات أخرى اشتملها القرار وتضغط الدول الكبرى على لبنان من أجل تنفيذها حتى لو كلفه الأمر زعزعة استقراره.
المسألة إذاً تحتمل التأويل وتفتح الموضوع على تفسيرات مختلفة لمعنى صدور مثل هذه القرارات الدولية. فالقرار 1559 توافقت الدول الكبرى على صدوره بذريعة تعديل مادة دستورية في بلد صغير يقع في شرق المتوسط. إلا أن بنود القرار تجاوزت الذريعة القانونية لتطاول مجموعة نقاط خطيرة تتصل بالوجود السوري في لبنان، وبالسلاح الفلسطيني وسلاح المقاومة (حزب الله) الذي أنزل هزيمة بالاحتلال الإسرائيلي. وحتى الآن وعلى رغم مرور أكثر من 18 شهراً على صدور القرار المذكور لاتزال الذريعة موجودة في مكانها بينما سورية خرجت من لبنان (بعد اغتيال الحريري) ويهدد الآن حزب الله بنزع سلاحه عقاباً له على مقاومته للاحتلال الإسرائيلي.
مسألة صدور القرار إذاً تدخل في دائرة الشبهات. فلو أن 1559 اقتصر على بند واحد لكانت القراءة مفهومة نسبياً إلا أن القرار كان أكبر بكثير من الذريعة الدستورية واشتمل على بنود لا علاقة لها بتعديل مادة قانونية والتمديد لرئيس دولة من «العالم الثالث». فالقرار وضع لبنان كله على سكة التدويل ودفعه دفعاً نحو الانقسام السياسي على نقاط حساسة ولا يمكن التعامل معها بخفة نظراً إلى كونها تمس أمن البلد وتوازناته وموقعه الإقليمي ودوره كدولة مؤسسة لجامعة الدول العربية. فالقرار كان رداً استراتيجياً كبيراً استخدم ذريعة محلية صغيرة لاعادة ترتيب الهجوم على المنطقة من خلال البوابة اللبنانية.
توسيع دائرة القرار 1559 كان هو الجانب المقصود من ذاك الاهتمام غير المعهود من هيئة مجلس الأمن للتدخل في مسألة تمديد لرئيس دولة من الدول الأعضاء. فهل كانت هذه المخالفة القانونية تستحق مثل هذا القرار النوعي الذي يتجاوز الذريعة وينطلق منها للاقتصاص من قوى محلية وإقليمية موجودة في لبنان؟
تدويل المسألة اللبنانية إذاً كان هو الهدف من وراء هذه الفزعة الدستورية. فالمقصود ليس رئاسة الجمهورية ولا الرئيس اللبناني ولا التمديد أو التجديد أو الانتخاب بل كانت هناك غايات أخرى بررت دولياً استخدام هذه الوسيلة. ولذلك لم يتردد القرار في تحديد الأهداف المطلوبة كثمن لابد من دفعه للسكوت على وجود الذريعة واستمرارها في مكانها.
حتى الآن دفع لبنان الكثير من اقتصاده واستقراره وسقطت على أرضه نخبة من رجاله بسبب هذا القرار/ الكارثة. الحريري اغتيل، وسورية خرجت من لبنان، وكرت بعد خروجها سلسلة اغتيالات.
الحكاية لاتزال في بدايتها. والرئيس الممدد له لايزال في مكانه.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1256 - الأحد 12 فبراير 2006م الموافق 13 محرم 1427هـ