العدد 1255 - السبت 11 فبراير 2006م الموافق 12 محرم 1427هـ

فضاء الديمقراطية

عثمان الماجد comments [at] alwasatnews.com

-

إن الديمقراطية من حيث هي شرط للتطور تقتضي منا توفير البيئة التي تنمو فيها وتتطور، وأهم عناصر تلك البيئة هي الثقافة الديمقراطية التي تتوقف عليها آمال العملية الديمقراطية ومستقبل بناء الأوطان، ذلك أن نجاح الديمقراطية يعتمد في الأساس على الشق المتعلق بالثقافة الديمقراطية ونشرها حتى تتجذر وتغدو معياراً أخلاقياً يصعب انتهاكه والتحول عنه باتجاه الاستبداد أنّى كان شكل ذلك الاستبداد. وأظن أن وقتاً طويلاً بما فيه الكفاية قد مر على نقد استبداد الدولة والمطالبة بتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية عبر إرساء الديمقراطية، إذ إن ذلك يرجع إلى أكثر من قرن مضى... فهل يجوز، بعد كل ذلك، أن ننتقل من استبداد الدولة إلى استبداد الثقافة؟ وليس من شك في أن الديمقراطية لا تنمو ولا تتطور في حال سكون مؤسسات المجتمع المدني وسكوتها عن ممارسة دورها الناقد لمجمل الانتهاكات الحقوقية والخروقات المالية والإدارية التي ربما يمارسها أعضاء في الحكومة أو متنفذون في أجهزة الدولة المختلفة بما يرفع من حالات الفساد لتغدو مسلكاً خطيراً ينذر بحالات احتقان اجتماعي يرتد أثره مباشرة على حياة الناس لتعيد هي بالتالي مناخات التسعينات وما اتصفت به من عنف وعنف مضاد أهدر طاقات البلد، وأشاع حالاً من الانفلات الأمني يبّس مفاصل النمو الاقتصادي، الذي نتمنى على الدولة وضع معايير جديدة لشغل الوظائف العليا متوافقة مع المناخ الديمقراطي الذي أسس له المشروع الاصلاحي، تكون الكفاءة والنزاهة والايمان بمشروع الملك أركاناً أساسية فيها بما يرفع من انتاجية مؤسسات الدولة ويقطع مع الكسل والترهل الاقتصادي، فالديمقراطية ينبغي أن تتساوق مع اقتصاد نشط لا يفوت سانحة استثمارية الا ويلتقطها لتنعكس على حياة الناس شبعا ورفاهية. ذلك أن انخفاض مستوى المعيشة، كما هو مؤكد يؤدي، بالضرورة، إلى تراجع الإيمان بالديمقراطية.

كما أن من باب أوليّ، على الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني العمل على تجذير السلوك الديمقراطي بين أعضائها ومناصريها، وتحشيد الأفكار وشحذ الهمم للحيلولة دون تراجع المطالبة بمزيد من الحريّات، أو تعريض هذه المطالبة لنوع من المساومات مع التيارات المحافظة التي ترى في الحريات ركوباً لقطار الليبرالية وخروجاً على منظومة القيم التي ترى في الدفاع عنها، تحت مختلف اليافطات، التزاماً دينياً، في سعي مشوه يتعمد الخلط بين الديني والدنيوي معتمداً في ذلك على شرائح اجتماعية كثيرة يهمها كثيراً عدم المساس بما هو ديني لصالح الدنيوي، ذلك أنه من الخطأ الإتيان بقول يفيد بأن مساحة الحريّات في مرحلة ما قبل المشروع الإصلاحي كانت أوسع هامشاً ليصار إلى نكوص عن دعم المشروع شعبياً، فالمطالبة بالحريّات لا يجب أن تضعف عن تلك المطالب المتعلقة بتحسين ظروف العيش حتى لا يشاع بين الناس أن الديمقراطية قلصت الحريّات وأضعفت الاقتصاد، على نحو يجعل من حقبة ما قبل الإصلاحات الديمقراطية عند الناس أنفع وأصلح، وتضيع الحقيقة في وهم نجاح المحافظين وخسارة الليبراليين، فيما الديمقراطية هي الحقيقة الوحيدة التائهة التي ينتظرها الوطن بمختلف أطيافه الدينية والمذهبية والسياسية، وطن يحلم بإرساء دعائم الوحدة الوطنية، التي لن تتحقق إلا باستبعاد جميع أشكال القهر الذي يتهدد أي كيان أو ثقافة على يد أي كيان أو ثقافة.

مقلق الفكر الذي يرزح تحت ركام من الموروث، وأكثر منه مدعاة للقلق ذلك الذي يتظاهر بالتجديد ممتطياً راحلة الديمقراطية التي تضفي عليه مؤقتاً، ديكوراً كفيلاً بتلميعه عند الجهات الرسمية والشعبية، ليبدو وكأنه انحاز للديمقراطية، فأهم اختبار على جديتهم في الإيمان بالديمقراطية هو الحريات الشخصية والعامة، فلن يسعد المواطنون وتتحقق مواطنة كاملة في غياب الحريات أو الحد منها مهما دفع المحافظون من مبررات، لأن ثقافات الناس مشمولة بقانون نسبية الأشياء، فما يراه بعضهم تفريطاً يكون عند آخرين تدخلاً سافراً في خصوصياتهم، وضرورة حياة لا تستقيم الديمقراطية من دونه، ولنا في ذلك في نظام الطالبان البائد أسوة سيئة!

من وجهة نظري فان على الدولة تقع مسئولية نشر الثقافة الديمقراطية لما تتملكه من قدرة على صناعة الرأي العام وتوجيهه عبر مؤسساتها التربوية والإعلامية، وبما لها من تأثير على جماعات الضغط الجماهيري المتمثلة في منابر الجمعة والحسينيات. فإذا كانت كثير من مفاصل الدولة احتاجت إلى عملية إصلاح وقد حصل، وتركت عليه علامات مضيئة ترتب عليها نجاحات قادت إلى رأب الصدع في العلاقة بين السلطة والشعب، وفتحت حواراً أنتج إجماعاً وطنياً تمثل في التصويت على ميثاق العمل الوطني بنسبة 98,4 %، فان هناك ضرورة، ولست اطرح ذلك من موقع متعصب، لإحداث تغييرات، حتى لو ترتب عليها قليل من ألم، في تأسيس وامتلاك وسائل الإعلام الخاصة التي تترفع على الفئوية وتسمو بها إلى تخوم الجدل المنتج لتتضاعف جهود المجتمع والدولة لإفراغ السلوك الجماهيري من العنف عبر معرفة الذات والآخر الوطني، وقبول هذا لآخر كما هو واحترامه كشريك في الوطن، وإهالة التراب على ما بدأ يطفو على السطح من نظرة دونية تحقر من الآخر المختلف. وأن أي تقصير في هذا الجانب سيقود حتماً إلى تدعيم الثقافة التي تعزز من التوجه في تعدد الولاءات والانتماءات المذهبية والعشائرية والدينية، أي الانتماءات التي تأتي في مرتبة أدنى من مرتبة الانتماء للدولة والولاء لها، وساعتئذ سيكون للثقافة التي احتوتها المذهبية واشتد بها التطرف وعصف، انعكاسات خطيرة على الديمقراطية. وليس ثمة أدنى شك من أن ذلك يقود إلى تقليص فرص التطور الديمقراطي ويتيح في المجال سانحات لتقلقل الفئوية وتنامي الوحدة الفكرية التي تقف على الضد من الديمقراطية والثقافة الديمقراطية. وعلينا في هذا الصدد فهم جدلية العلاقة بين الثقافة، بجميع مستويات سيادتها في المجتمع، والديمقراطية. فإذا ما كانت المدخلات الثقافية من فصيلة هذا ممنوع وذاك محرم بمعزل عن، ثقافة الاختلاف واحترام الرأي الآخر والتسامح، التي هي أركان مهمة في البناء الديمقراطي وبالتالي فهي أسس للاندماج في الوطن الواحد، فلن تجدي كل محاولات الدولة والمجتمع في ترسيخ ديمقراطية حقيقية، وفي تقديري أن في الديمقراطية لا يوجد ممنوع ومحرم إلا إذا قصدنا إفراغ الديمقراطية من معناها، فكل شيء فيها جائز وممكن شريطة أن يعتمد، هذا الجائز وهذا الممكن، على دفع جماهيري يحيله إلى غالبية وإلا تحول إلى غير جائز وغير ممكن إلى حين تتبدل الظروف التي تحكمه، ففي الديمقراطية كل شيء قابل للتداول على طاولة الحوار انطلاقا من مقولة، لطالما رددناها حتى بات من المشروع التساؤل هل حقاً نحن نعي ما نقول؟، وهي أخالفك الرأي ولكنني مستعد للتضحية بحياتي من أجل حقك في التعبير عن رأيك، التي قالها فولتير، أحد المحرضين على انضاج ظروف الثورة الفرنسية وتفجيرها، والذي حمل عداء مفتوحاً ومطلقاً ضد التعصب وأسس لثقافة التسامح في مجتمع ضج بالمتطرفين الكاثوليكيين

العدد 1255 - السبت 11 فبراير 2006م الموافق 12 محرم 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً