أخرج الحافظ أبونعيم في «دلائل النبوة»، بالإسناد عن الأصبغ بن نباتة، قال: «أتينا مع عليٍّ موضع قبر الحسين، فقال: هاهنا مناخ ركابهم وموضع رحالهم ومهراق دمائهم. فتيةٌ من آل محمد يُقتلون بهذه العرصةِ تبكي عليهم السماء والأرض». ويقال إنه حمل قبضةً من التراب وشمّها وبكى بكاءً شديداً وقال: «طوبى لكِ من تربة، فيك تقتل الأحبة»، حتى استغرب منه مرافقوه هذا الصنيع.
كان ذلك في العام 40 للهجرة، عندما كان الإمام علي (ع) في طريقه إلى صفين. وأغمض الزمان عينيه 20 عاماً، ليفتحهما مرةً أخرى في شهر محرم العام 60 هـ، إذ أناخت القافلة ركابها وحطّت رحالها، في تلك الصحراء الموحشة على غير ماءٍ ولا كلأ.
كانت القافلة تضمّ نحو مئة راكب، من الفتيان والشيوخ والأطفال والنساء، وبدأت الجنود تصل، حتى بلغ عددهم 30 ألف مقاتل، بدأوا بحصارهم من كل جانب، وقطعوا الماء عن الخيام، ولجأوا في الليالي الأخيرة إلى قرع الطبول ليلاً لإزعاجهم. وفي ظهيرة يوم العاشر من المحرم، كان الفرصة الأخيرة: الخيار بين مبايعة الحاكم الطاغية، أو السيف. وكان التاريخ يقف مشدوهاً أمام ما يجري لأنه سيحدد مصير الإسلام كله، الذي يواجه محاولة قلبه إلى دينٍ بلا روح.
كان الخيار الوحيد بين السِلّةِ والذلةِ، ولم يطل المقام بالثائرين، فقد بدأ القوم صبيحة اليوم العاشر، يرسلون سهامهم باتجاه مخيم الثائرين، ولم تأتِ الظهيرة إلاّ وقد قرعت طبول الحرب. وبعد الصلاة بدأت المجزرة: 73 قتيلاً، بينهم عدد من الأطفال والنساء، وهكذا تكون المروءة العربية. وفي غمرة الحماسة وزهوة الانتصار، شرعوا في قطع رؤوس القتلى، وعلقوها على الرماح، إيذاناً ببدء أمجاد أمية. ولتكتمل فصولُ المذبحة، مالت مجموعةٌ من الخيّالة يطأون بحوافر خيولهم أجساد الهاشميين. ولم يرتوِ الحقد الأموي إلاّ بالميل نحو الخيام، ليحرقوها على من بقى من أطفال الحسين ونسائه، وهكذا تكتمل شهامة الأمويين.
وانتهت مأساة القتل لتبدأ فصول مسيرة السبي عبر الصحاري المقفرة بين العراق ودمشق يقطعونها في شهر، لتسجل أول قافلة أسرى في تاريخ الإسلام، لكنهم كانوا - وياللمفارقة - من بيت محمد، النبي الذي جاءهم بالهدى قبل ستين عاماً، ولكنهم أكرموه بهذه الطريقة وحفظوه في ذريته.
وفي مساء مثل هذا اليوم، قبل 1366 عاماً، كان المساء حزيناً، والأرض كانت قد ارتوت من دماء أبناء الرسول، وضاقت على بناته الأرض بعد أن حرقت عليهن الخيام، وفرّ الأطفال في الصحراء. وخرجت امرأة محنية الظهر من بين الخيام المحروقة تتلمس طريقها نحو أرض «المعركة»، وهناك جلست بين الأجساد المقطوعة الرؤوس، حتى توقفت أخيراً أمام جسدٍ طالما رافقها ورافقته من أيام الصبا... لم يفترقا إلا ظهيرة هذا اليوم، فقد خرج على حصانه، وعاد الحصان ولم يعد الفارس. وأخيراً انحنت على الجسد، أخذت تشم منحره، ورفعت ما بقي من الجسد المقطّع وقالت: «اللهم تقبل هذا القربان من آل محمد». فتيةٌ من آل محمد قتلوا بهذه العرصة ستظل تبكي عليهم السماء والأر
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1252 - الأربعاء 08 فبراير 2006م الموافق 09 محرم 1427هـ