هل يستطيع أي منا حفظ المسافات والتوازن النفسي والعقلي عند التعاطي مع مفهوم العمل السياسي ودلالته وتأويله من قبل الطرف الرسمي؟ ولاسيما ان رهانات الحكم على ترويض المواطنين في التعاطي مع المفاهيم والقيم المتعلقة بممارسة الفعل السياسي، والمشروع الإصلاحي، والديمقراطية، ودولة القانون والمؤسسات، باتت رهانات عالية وضاغطة باتجاه ترسيخ ما يسعى إليه. ففي واقع الأمر، وللإجابة على السؤال، حتماً سنحتاج إلى فحص دقيق ومستمر لمحتوى الخطاب الرسمي، بدءا مما جاء من تعبير طريف على لسان وزير الدولة في السابق «الانشغال والاشتغال بالسياسة»، وصولاً إلى تصريحات وزيرة التنمية الاجتماعية المنشورة في (الوسط، 29 يناير/ كانون الثاني 2006) حينما ذكرت بأن: «الخلاف القائم بين الوزارة والاتحاد ينحصر في مسألة العمل السياسي، ولا عمل سياسي لأي جمعية أهلية. الوزارة لا تمانع من عقد ندوات أو محاضرات توعوية أو تثقيفية بشأن تمكين المرأة السياسي أو الاقتصادي أو غيرها، إلا إننا سنرفض فكرة تبني العمل السياسي. خاطبنا وزارة العدل لتحديد تعريف واضح للعمل السياسي، وذلك حتى يتم الفصل ما بين العمل الاجتماعي والعمل السياسي على أسس ومعايير واضحة ومدروسة. «نشدد ثانية، فحص المفردات لكونها تعبير فاقع عن نهج تفكير وممارسة مستمرة من قبل رموز الدولة مع المواطنين، إذ أن الفحص سيساعد على كشف مظاهر التناقض والازدواجية في تحقيق حيثيات المشروع الإصلاحي، ذلك الذي سيرفع بدوره الغطاء عن أشكال ومضامين الحواجز المنيعة المعيقة لتحقيق مشاركة سياسية فعلية على اتخاذ القرار وصنعه للمواطنين عامة.
الأمر الآخر الذي سنحتاج إليه، ولحين تحديد التعريف الرسمي لماهية العمل السياسي، هو الإطلاع على ما أجادت به علينا المعرفة والفكر الإنساني حينما فكك وحلل مفهوم العمل السياسي وأبعاده، فالأخير كما تعلمون، ليس ابتكاراً حكراً على الدولة، ولا هو بالغريب، حتى وإن كان ممنوعاً في زمن قانون أمن الدولة، بل هو في المحصلة الختامية، علم يدرس في الجامعات وعصارة جهد بشري وفكري وتاريخي متسلسل عبرت عنه الحضارات الإنسانية والحركات الثورية والتحررية الشعبية التي طورت من مقولاته ونظرياته ومناهجه، وخصوصاً ان أوضاع المجتمعات متباينة وتسودها الظواهر السياسية المتعلقة أساساً بالواقع الاجتماعي وصراعات قوى المجتمع، وكما يصفه بعض الباحثين بأنه: «علم مزعج وخطير في آن، مليء بالألغام، والغموض وبما يرافقه من علاقات قانونية ومؤسساتية، وتنظيرات ذات صلة بالصراعات والتحالفات والقيم والثقافات والأهم بعناصر النفوذ والقوة».
ولعل في ما يتناوله (إبراهيم أبراش) في كتاب له بعنوان «علم الاجتماع السياسي» حصيلة معرفية ودلالات وافيه على اننا أمام خطاب رسمي محلي متلون يتعاطى مع مفهوم زئبقي، يفرض علينا كما أسلفنا، الفحص الدقيق والمستمر، فالمؤلف يرى: أن لا مجتمع يخلو من السياسة، فالسياسة محايثة (تنشيط) للمجتمع، وهي سياسة أناس يعيشون في مجتمع، حاكمين أو محكومين مدافعين عن الواقع أو معارضين له، وهناك تداخل بين ما هو سياسي» وما هو (اجتماعي)، وان الظاهرة السياسية هي بالأساس ظاهرة اجتماعية، بل يصعب الفصل بينهما إلا لاعتبارات إجرائية بحثية محض. وعلى صعيد آخر، ورداً على الساعين لفصل الممارسة السياسية عن أنشطة المجتمع المتعددة، يتوصل إلى صعوبة تعريف السياسة، قائلا: «فبقدر بساطة المصطلح الظاهرية وكثرة تداوله بين الناس العاديين وبين رجال السياسة، إلا أن تعريفه العلمي لا يتفق مع التعويم لاستعمال مصطلح السياسة، وتعقد البناء الاجتماعي وتداخل ما هو سياسي مع ما هو اقتصادي أو ديني أو أيديولوجي أو قانوني يجعل من عملية التمايز أو التمفصل بين هذه الأنساق أو المجالات أمراً صعباً». وينقل عن (جوليان فروند): «بأن السياسة تشبه كيس سفر يحتوي ما تنوع من الأشياء... فيه ما شئت من الصراع، والحيلة، والقوة، والتفاوض والعنف والإرهاب، والتخريب والحرب والقانون...»، وفي زاوية أخرى من الكتاب يشير إلى ما جاء في مقدمة (ابن خلدون): «إن السياسة شيء لابد منه، فلا يخلو مجال من مجالات الاجتماع البشري من السياسة، لان الناس لا ينتظمون في الاجتماع المدني ويخضعون للقوانين إلا بوجود وزاع يزع بعضهم عن بعض»، فضلاً عن مقولة (أرسطو) الشهيرة: «إن الإنسان حيوان سياسي بطبعه»! لذلك، شئنا أم أبينا، الفعل السياسي مكون أساسي من مكونات أفعال الإنسان، وذو صلة بمصالح الجماعات وتعارضها وما تعكسه علاقاتها من مظاهر صراع أو التقاء لقوى المجتمع، وبالتالي، لا توجد قوة على الأرض تمنع الإنسان - المواطن من المشاركة في ممارسة الفعل السياسي!
ثمة قضايا متصلة بالمفهوم تناولها (الأبرش) وعالجها بالتحليل في الكتاب ذاته وهي لا تقل أهمية عن سابقتها، منها:
تساؤله: عن المقصود بالسياسة التي سيشارك فيها الفرد؟ هل هي بالمفهوم العام، الشعور والفكر والنشاط العام والتعاطف، وكل علاقات التحالف والصراع التي تحدث بين الأفراد وما له من علاقة بالتنازع على القوة؟ أم إنها مشاركة في عملية اتخاذ القرار السياسي على مستوى القمة فقط؟ يجيب: إنها كل نسق سياسي يسعى إلى دمج أفراد المجتمع ضمن لوائه وربطهم به قسراً أو قناعة، وكلما حدث الدمج كلما كان ذلك مؤشراً على استقرار النظام، فالمشاركة السياسية هي ميكانزم عمل النظام السياسي الديمقراطي لإضفاء طابع المشروعية عليه، وللتعرف على آراء ومطالب الجمهور لكي تؤخذ في الاعتبار عند صوغ القرارات، وهي أداة بيد الجمهور لضمان تحقيق مطالبها، وذلك لأنها تعمل على التأثير على القرارات السياسية. وفي حال الأخذ بقصد أن السياسة علم الدولة، أي إنها تقتصر على ما له من شأن بمؤسسة الدولة وبعلاقة الحاكمين بالمحكومين، افترض: «إن دلالتها ستظهر في عملية اتخاذ القرار السياسي أو التأثير على متخذي هذا القرار، وستقتصر تجسيداتها في عملية التصويت في الانتخابات، أو الاستفتاءات أو المشاركة في الأحزاب السياسية».
أما إذا كان المقصود بها علم السلطة، فالمفهوم سيتسع ويصبح معناه دالاً على كل أشكال علاقات القوة التي تحكم المجتمع، سواء علاقة القوة بين أفراده بعضهم بعضاً، أو علاقة القوة ما بين وحدات المجتمع والدولة كجهاز سياسي.
إذاً العناصر التي تناولها المؤلف أعلاه مهمة، ويستوجب النظر إليها في سياق تفاعلها مع بعضها بعضاً في إطار علاقة جدلية، بيد إن الاستنتاجات التي توصل إليها بالمقابل تمثل أهمية أكثر في الجدل الدائر بشأن مفهوم العمل السياسي، كيف؟ لنرى:
(1) للمشاركة السياسية أهمية ومحل للوجود والتموقع داخل المجتمع، حتى وإن تمت خارج مؤسسات الدولة وصناعة القرار السياسي مباشرة. لماذا؟ لأن المشاركة كفعل سياسي كما يشير، توجد على مستوى المشاركة في الجمعيات المحلية، وتنظيمات المجتمع المدني، كالجمعيات النسوية والاتحادات الطلابية والنقابات والجمعيات الثقافية والمؤسسات الدينية، أي - كل تجمع يحوز على السلطة ويسعى للتأثير في الحياة السياسية -، وبما في ذلك من مظاهرات وإضرابات وعنف سياسي، واعتبر تلك المؤسسات قنوات مهمة لبلورة رأي عام ضاغط على الحكومة، ويحسب لها ألف حساب عند صياغتها لقراراتها، وعادة ما تنشط أثناء المرحلة السابقة للانتخابات، لما لها من دور في التأثير على الخيارات السياسية للمواطنين، إذ توجههم للتصويت إلى هذا الحزب، أو ذاك، ومن المعلوم أن الأحزاب من جهة والنظام السياسي من جهة أخرى، يسعى كل منهما إلى استقطاب هذه المؤسسات لجانبه، أو على الأقل ضمان حيادها، كما يسعى كل منها إلى تأسيس أكبر عدد ممكن من هذه الجمعيات.
(2) ليس كل عمل سياسي يؤدي إلى مشاركة سياسية، وحتى يكون مشاركة أو يؤدي إليها، لابد أن يؤثر على السياسة العامة للدولة وعلى عملية اتخاذ القرار السياسي فيها، فمطالعة كتاب سياسي لا تعني ممارسة مشاركة سياسية، وشخص له موقف سياسي أو يتخذ موقفاً سلبياً تجاه المجتمع وحوادثه ويرفض الاندماج في المؤسسات السياسية القائمة - شرعية وغير شرعية - لا يكون مشاركاً سياسياً، حتى لو كان عاطفياً ووجدانياً له ميول سياسية، إذاً السلوك الفردي لا يتحول إلى سلوك سياسي فعلي إلا إذا اتجه نحو التأثير على النسق السياسي أو على المجتمع بشكل عام.
(3) المشاركة السياسية تعني ما تعنيه من: معرفة وإلمام بالمسائل السياسية، وهي قيم وعواطف وشعور بالانتماء وإرادة في التغيير وإحساس من المشارك بأنه جزء من الوطن، وهي طبعاً، حق من حقوق المواطن السياسية، إذ عن طريقها سيتم تغيير سياسة الدولة وتوجهاتها العامة. وحتى يكون المواطن مشاركاً سياسياً، عليه الاهتمام بأمور السياسة العامة، والمساهمة في النقاش الدائر حولها، والتوافر على مبدأ يرتبط بالمصلحة العامة، والحافز والدافعية لتلك المشاركة، مضافاً إليه النضج والتعقل.
من دون أدنى شك، النقاط الثلاث الأخيرة، تختصر ماهية العمل السياسي والأفكار بشأن عمل آلياته من مؤسسات حزبية وأهلية بحكم كونها قنوات للمشاركة السياسية، وعلاقتها بمضمون الفعل السياسي نفسه وفاعله والمنفعل معه، وإلى أن يعمم التعريف الرسمي الجديد لمفهوم العمل السياسي، دعونا نعمل الفكر، ونقوم بالمفاضلة والمقاربة بهدف استنتاج المفارقات التي يستبطنها الخطاب الرسمي في مقابل ما تجود به علينا مصادر المعرفة وبطون الكتب
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1251 - الثلثاء 07 فبراير 2006م الموافق 08 محرم 1427هـ