لم تكن كربلاء مجرد صحراء شهدت مذبحة في قرن من القرون، انما كانت مواجهة بين إسلام النهضة والحرية وكرامة الإنسان، وبين حاكم مستبدٍ أراد أن يتخذ عباد الله عبيداً، تلك هي باختصار المعادلة التي حكمت مسار الأحداث نهاية العقد الهجري الثالث.
من هنا تكتسب زاوية القراءة لفهم هذا الحدث التاريخي أهميتها، فالبعض الذي نظر إلى حركة الحسين (ع) على أنها طمع في ملك أو منافسة في سلطان، أخطأ الفهم، فمن يريد الملك لابد أن تكون له مرونة و«تكتيكات» ويجيد تقديم «التنازلات»، فإذا لم يحظ بالكعكة فلينل نصفها أو ربعها أو عشرها، لا أن يخسر حياته ويعرض نفسه وعائلته وأنصاره للاستئصال بهذه الطريقة الدامية.
ولأن بعض أفراد المسلمين ما عادوا ينظرون إلاّ من خلال منظارهم الطائفي، فإن الرؤية تغمّ عليهم، فلذلك، تأتي مثل تلك الأماني «المضحكة»، في الترحم على القاتل المسئول عن عموم مذبحة كربلاء. بل تذهب بالأحكام إلى تخطئة القتيل المظلوم، وتبرئة القاتل الذي أرسل مجموعة من رجال مخابراته ليقتلوه ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة، ما اضطره إلى أن يترك حرم الله الآمن وأن يهاجر في أرض الله الواسعة.
المنظار الطائفي نفسه يلقي بظلاله ليس على قراءة الحقائق التاريخية وتحويرها فحسب، وانما يتعداه حتى إلى توجيه عقلية الإنسان عند توجيه سؤاله إلى من يقابله: «ما رأيك في ما يقال... إن صحت الرواية؟» والجواب أكثر تعرية وقبحاً واستخفافاً بالعقول من السؤال: «طبعاً لا تصح، فيزيد مسلم، والمسلمون مبنية أفعالهم على السلامة، وبالتالي ندعو الله له ولأمثاله الجنة والفوز بالحور العين».
طبعاً هذه الروايات لا تصح، وبالتالي علينا أن نلقي بكل ما دوّنه المؤرخون المسلمون الذين ذكروا الحادثة في البحر، فهم كلهم كاذبون! وما يقال عن يزيد انما هو مؤامرة أميركية صهيونية لتشويه أمير المؤمنين، رمز الخلافة الإسلامية، ولابد من إسقاط هذه المؤامرة! وإذا وصلت الأمور إلى هذه النقطة وجدت نفسك أمام مسرحية عابثة تداس فيها العقول.
على أن ما قد ينصف الحسين (ع) وأصحابه من هذه الفئة النابذة للمجتمع والمنبوذة من المجتمع، أن هناك قراءات أخرى في هذه المرحلة من التاريخ، تأتي من باحثين أجانب قرأوا التاريخ من دون عقد طائفية، وخرجوا بموقف علمي موزون. فجون أشر بعد دراسته كربلاء، قال: «ان مأساة الحسين تنطوي على أسمى معاني الاستشهاد في سبيل العدل الاجتماعي». ومن المؤسي حقاً أن يقول المؤرخ جيبون: «إن مأساة الحسين تتغلغل في كل شيء حتى تصل إلى الأسس، وهي من القصص القليلة التي لا يمكنني قراءتها قط من دون أن ينتابني البكاء»، بينما هناك «دعاة» غلاظ شداد، لا يرون في كربلاء أشلاء الضحايا، ولا صور بنات محمد (ص) يتم سوقهن أسارى من الكوفة إلى دمشق، يقطعون الصحاري على ظهور الجمال، يتقدمهم 16 رأساً من رؤوس الهاشميين على الرماح، ولكن قلوبهم ترق ومدامعهم تسيل إذا سمعوا اسم المسكين «يزيد»، فيلهجون بالدعاء له بالرحمة والرضوان!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1251 - الثلثاء 07 فبراير 2006م الموافق 08 محرم 1427هـ