عندما كان رسول الله (ص) يلقي على أسماع المسلمين ما ينزل عليه من آيات، يطلب منهم الإمهال والتأني حتى يتمكنوا من هضم ما يسمعوه منه، فكانوا يخاطبون الرسول الأعظم (ص) بقولهم (راعنا) والتي تعني انظرنا أو أمهلنا.
غير أن هذه الكلمة (راعنا) لها معنى الشتم أو السب في لغة اليهود، فاقتنص المنافقون هذه الفرصة، فصاروا يخاطبون بها الرسول (ص)، متظاهرين بالتأدب، تماما كما يفعل المسلمون. عندها نزلت الآية التالية ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم) (البقرة: 104)، فمع أن الكلمتين (راعنا) و(انظرنا) لهما نفس المعنى، إلا أن القرآن يطلب من المؤمنين استبدال الأولى بالثانية، ويهدد بأنه سيعتبر من يخالف ذلك بأنه من الكافرين ويتوعده بعذاب أليم.
وأتذكّر أن بعض المفكرين الإسلاميين وإن ضغطتهم الظروف لاستخدام كلمة (الديمقراطية) إلا أنه يتحفظ بشكل عام على استخدام ألفاظ مستوردة قد تعكس معنى ينطلق من قاعدة فكرية مخالفة للقاعدة الفكرية في الإسلام، ويستشهد بهذه الآية. غير أن بعض الكتّاب لدينا، أوغل أكثر من مجرد استخدام ألفاظ مستوردة ومصطلحات تحمل مضامين ومدلولات تخالف الفكر الإسلامي، لحد أن يستخدم ألفاظا تشطيرية جديدة، وكأن ما ينقصنا هو مزيد من التشطير عن طريق المصطلحات ذات المدلولات الفكرية المعيّنة.
لقد استغربت عندما وقع نظري على لفظ (الإسلام الوسطي) في مقال لأحد الكتّاب الإسلاميين لدينا، فهذا مصطلح يثير التساؤل الآتي: هل لدينا أكثر من إسلام واحد؟ وهل الاختلاف في فهم بعض جوانب الإسلام، يبيح لنا إخراج الآخرين من خانة الوسطية التي امتدح الله تعالى في كتابه الأمة الإسلامية بقوله (وكذلك جعلناكم أمة وسطا...) (البقرة: 143). وتعريف الإسلام لا يختلف عليه أحد من المسلمين، ولا يعني وجود افهام مختلفة لعدد يسير من المفاهيم الحياتية والأحكام الشرعية وجود أكثر من إسلام. نعم هناك فئات من المسلمين، يوصمون بضيق الأفق في مناحي فهمهم لبعض جوانب الإسلام، وهم بالمقابل يردّون على متهميهم بأوصاف أخرى، غير أنه لا يصح - في تصوّري - ان نطلق على إسلامهم إسلاماً متطرفاً أو إسلاماً معتدلاً مثلا، ولا إسلاماً شيعياً أو إسلاماً سنّياً، فربما يمكن تصنيفهم كمذاهب إسلامية، أو وصفهم بأنهم مسلمون متطرفون أو متعصبون، ويحتفظ كل منهم بحق الادعاء بأن مذهبه هو الأصح وأنه أقرب للأمة الوسط المذكورة في كتاب الله العزيز.
إن سلوك هذا المنحى في استخدام الألفاظ- المصطلحات - بهذه الكيفية، منحى خطير، ويهدد بمزيد من تشطير الصف، وهو أخطر انواع التشطير ذلك انه يستهدف التمييز الفكري عن طريق الادعاء بوجود أكثر من إسلام في الساحة،.
ومثل هذه الدعاوى العريضة التي لا سند منطقي ولا أساس فكري دقيق لها، تقود إلى اخراج الطرف الآخر وبشكل تلقائي من الإسلام، وتخرجه من أكبر صفة وصف القرآن هذه الأمة بها، وهي صفة الوسطية التي تعني أن المسلمين بمفاهيمهم عن الحياة والإنسان والكون وما يعكسه ذلك كله على قيمهم الاجتماعية النابعة من عقيدتهم بالله والإيمان برسالة محمد (ص)، أخذوا طريق الوسط، يمزجون بين العناية بالجسد وحاجاته والنيل من ملاذ الدنيا ومتاعها، والاهتمام في الوقت نفسه بالجانب الروحي والقيم المعنوية، يسعون للدنيا والآخرة ولا يرضون بالاقتصار على احداهما.
لقد حورب الإسلام والمسلمون منذ انبعاث الرسالة بعدد من الوسائل، واستخدام المصطلحات كان ضمن الوسائل الخطيرة التي استخدمت لهذا الغرض، وفي العصر الحديث رأينا كيف تترا علينا حرب المصطلحات التي باد بعضها، فطالما سمعنا مصطلح (اصوليون) خصوصاً في القرن الماضي وبكثرة. فهذا المصطلح على سبيل المثال، يهدف لوصم المسلمين بصفات منبوذة، ينفر منها الغربيون، وهو مصطلح مرتبط بظهور جماعة بروتستانتية التوّجه في القرن التاسع عشر تدعو لمخاصمة التقدم والتطور ومعاداة المجتمعات العلمانية بشرّها وخيرها على السواء كما يقول محمد عمارة.
ولأنها تحمل مضامين سيئة، قام أعداء الإسلام بإسقاطها على الحركات الإسلامية المعادية للاستعمار، فالتقطتها صحافتنا ووسائل الإعلام لدينا كما تلتقط الدجاجة الذّرة من على الأرض، ولمّا خبا أوارها وخمد وهجها من الينبوع الذي منه خرجت - أقصد وسائل الإعلام الغربية - جمدت في الجداول و«السقالات» التي تستقي من هذا الينبوع، وأقصد بها بعض صحافتنا ووسائل الإعلام لدينا.
إن الاختلاف بين المسلمين لا يبرر الدعوى العريضة بوجود إسلام وسطي ما يوحي بالتعدد، فغياب المعصوم حتما يؤدي إلى تنوّع الاجتهادات والاختلاف في فهم بعض النصوص، ومن ثم تتعدد المذاهب والفئات، غير أن بعض الفئات تتطرف تجاه من تختلف معه وقد تخرجه من الدين، وهذه الدعوى هي على هذه الشاكلة وإن كان مطلقوها عادة يهدفون إلى تمييز أنفسهم بكونهم انفتاحيين ومعتدلين ويرضون بالتعددية وقبول الطرف الآخر وغير متعصبين.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1251 - الثلثاء 07 فبراير 2006م الموافق 08 محرم 1427هـ