ما حصل في بيروت من حوادث شغب وتكسير وتدمير وحرق مؤسسات وسيارات واعتداءات على مقدسات وحرمات الناس اعطى فكرة مضادة عن المعنى الإنساني لحركات الاحتجاج التي عمت العالم الإسلامي اعتراضاً على تلك الاساءات والاهانات التي افتعلتها بعض الصحف الأوروبية ضد الإسلام والمسلمين ورسول الله (ص). ما حصل كان كارثة وأعطى ذريعة لتلك الثقافة العنصرية المتأصلة تاريخياً في بعض جوانب وزوايا أوروبا... للبقاء والاستمرار وشحذ اسلحة الاستعلاء والاحتقار ضد الآخر المختلف والغريب أو ما شابه من مفردات ومصطلحات تستخدم ضد ديانات ومعتقدات العالم غير الأوروبي.
الاعتداءات التي نفذتها بعض الجيوب في مظاهرة بيروت ضد الكنائس المسيحية في منطقة الاشرفية (المارونية والارثوذكسية) ساقت الاحتجاجات من مكان إلى آخر وألقت بعض الظلال والشك على منطق صحيح في جوهره. فحركة الاحتجاجات التي قامت في العالم الإسلامي وحدت مشاعر الناس في مختلف مذاهبهم وطوائفهم ومناطقهم، ووجهت رسالة إنسانية قوية ضد تلك الافكار الشوفينية والتيارات المتعصبة وحركات النازية الجديدة التي تبث سمومها في مختلف فروعها في دول أوروبا.
نجحت هذه الحركة الاحتجاجية الإنسانية في حشر حكام القارة ووضعتهم أمام مسئولياتهم واعطت من جانب آخر قوة معنوية لتلك الفئات المتنورة والمتسامحة والمنفتحة أو المتفهمة لمشاعر الآخر المختلف في لونه وجنسه وثقافته وعاداته وتقاليده ومعتقداته.
للمرة الأولى ومنذ زمن طويل تتجرأ قوى أوروبية فاعلة على النهوض في محاولة منها للتصدي لتلك الفئات المنغلقة على نفسها وعن العالم. وللمرة الأولى بدأت تشهد القارة ما يشبه حركة التضامن مع العالم الإسلامي. وهذه الحركة إذا اتسعت دائرتها يمكن ان تنجح مستقبلاً في كسر تلك الحلقة العنصرية من خلال توجيه ضربات لها من داخل الثقافة الأوروبية.
هذه الثقافة لا يمكن تعديل زواياها ورؤيتها وتطويرها من الخارج. فالقوة الخارجية (الإسلام) تلعب دور المساند إلا أنها لا تقوى على إحداث التغيير المطلوب من دون دعم داخلي يستند إلى قوى لها مصلحة أوروبية في اتخاذ تلك الخطوة التاريخية التي يتوقع لها، إذا استمرت، ان تدفع القارة نقلة نوعية في قراءة الآخر والتعامل معه باحترام ومن دون ازدراء وشماته.
هذا الرهان الطويل والشائك يحتاج إلى وقت ويتطلب أيضاً رؤية حضارية متسامحة من جهة العالم الإسلامي حتى يمكن محاصرة العنصرية الأوروبية وتطويقها. والرهان لا يمكن ان يستمر من دون تواصل بين قوة إسلامية مقهورة وقوى أوروبية قاهرة لكنها تتفهم مظلومية المسلمين والاسباب الكامنة التي تدفعهم دائماً للغضب والاحتجاج على الاهانات والاساءات.
إنها عملية شاقة وتحتاج إلى جهود جبارة لنقل العالم الأوروبي من عقدة التفوق والاستعلاء والتشاوف على الآخر إلى واقع يحترم التعايش والتسامح ويقبل بالآخر المختلف في جنسه وعرقه وثقافته.
ما حصل في بيروت كارثة في كل المقاييس، لأن تلك الحوادث المجنونة تعطي ذريعة لتلك الحفنة من العنصريين (النازيون الجدد) للاستمرار في سياسة الحصار وافتعال الفتن وإشعال الحروب للخلاص من «الاقليات» في أوروبا وطردهم إلى قارات العالم الثالث. كذلك يسهم هذا النوع من المبالغة في التطرف مضافاً إليه انتهاك حركات ومقدسات الآخر (المسيحي الشرقي) في احباط تلك القوى الأوروبية التي بدأت تتفهم - وعلى غير عادتها - ذاك الفارق والرابط بين الحرية والاحترام.
العنصريون في أوروبا يستغلون الحرية ويستفيدون من الصحافة لزرع الشقاق بين ثقافات الشعوب ثم يعيدون استخدامها لممارسة التفرقة والاضطهاد وعزل الآخر (المختلف) عن محيطه والعالم بغية إهانته وإذلاله واحتقاره. فالحرية عند هؤلاء الاوباش تعني قلة الادب وإهانة المختلف وعدم احترام الآخر. بينما الحرية في الإسلام تعني الاحترام والتسامح والتعارف والانفتاح... وأخيراً التدافع من أجل التقدم وخير الإنسان والإنسانية.
هذا الرابط/ الفارق بدأت تتفهمه بعض النخب المثقفة (السياسية والحزبية) في أوروبا. وتعتبر هذه الخطوة نقلة نوعية في تفكير شريحة أوروبية بدأت تربط بين الحرية والاحترام وبين التعارف والتدافع.
انها بداية صحيحة وحتى تستكمل حلقاتها لابد من تطوير هذه النزعة الإصلاحية لا تخريبها باطلاق صيحات لا عقلانية تجرف الناس الابرياء وتحرق ممتلكاتهم وتنتهك مقدساتهم لمجرد ان عماراتها مختلفة في الشكل... كما وقع في الاشرفية.
ما حصل في بيروت كارثة ولعب سلباً ضد المظلومين واعطى فكرة خاطئة عن غضب المسلمين وثورتهم ضد التفرقة العنصرية والاساءات والاهانات، والاعتذار عما حصل كان الرد المطلوب وهو الصحيح في عالم لا يعتذر. والإنسان المؤمن هو من يعترف بالخطأ ويعتذر. وهذا أيضاً ما حصل
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1250 - الإثنين 06 فبراير 2006م الموافق 07 محرم 1427هـ