لم تتوافق أوروبا هذه المرة على مسألة نشر رسومات تهين المسلمين ومعتقداتهم. فالمواقف توزعت على فئات ثلاث.
الأولى جمعت كل العنصريين والشوفينيين والحاقدين والكارهين للأجنبي والغريب والمختلف في الدين واللون والجنس والثقافة. وهذه الفئة دافعت عن الرسوم وبررت الإهانة تحت يافطة «حرية» الصحافة والإعلام.
الثانية ضمت بعض الحكومات والمسئولين، إضافة إلى إعلاميين ومفكرين ومثقفين رفضت سياسة إهانة الناس والمس بكرامتهم ومعتقداتهم باسم الدفاع عن «الحرية». وهذه الفئة أخذت المنافع والمصالح في الاعتبار ورأت أن مصلحة أوروبا تقتضي التفاهم مع العالم الإسلامي.
الثالثة ضمت مجموعات لا بأس بها من المتنورين والليبراليين والديمقراطيين واليساريين والمنفتحين على العالم الآخر. وكلها اتفقت على ضرورة بناء جبهة داخلية تقاوم تلك التيارات الشوفينية والنازية والعنصرية تمهيداً لوضع حد لمثل تلك المدارس التي لا تعيش إلا على إثارة الاحقاد والنعرات لتبرير دعوات النقاء العرقي وطرد «الأقليات» من القارة. وهذه الفئة مهمة في تنوعها وخصوصاً أنها استقطبت الكثير من رجال الدين المسيحيين واليهود، إضافة إلى مفكرين لا يؤمنون أصلاً بالديانات.
الفئة الثالثة واسعة الانتشار وهي شديدة التأثير على الرأي العام وصُنّاع القرارات السياسية نظراً إلى تعددها وتشعب مصادرها الفكرية وروافدها الفلسفية. ولذلك تعتبر الأهم والا قدر على مكافحة تيارات تحرض على الكراهية أو العداء للمسلمين.
نمو هذا النوع من الاعتراضات يشكل نقطة في بحر الظلمات. وهذه النقطة يمكن أن تتسع ويمتد شعاعها ليطاول الكثير من الثوابت التي تأسست عليها ثقافة الكراهية في أوروبا. فهذه الثقافة قديمة وتعتمد على أصول وفرضيات فلسفية تنطلق من مبدأ التفوق الحضاري والنقاء العرقي وسياسة «الآنا».
و«الآنا» تعني اقتصادياً أن أوروبا هي «مركز» العالم وما تبقى من الكرة الأرضية مجرد محيط (حديقة خلفية) تحيط بنقطة الدائرة. إلا أن اتساع رقعة هذه النقطة قد يشكل مستقبلاً بداية لكسر تلك الدائرة وفتحها على احتمالات جديدة.
والاحتمالات الجديدة يمكن رصد معالمها من ردود الفعل المتفاوتة التي جرت في أوروبا والولايات المتحدة التي استنكر بعضها نشر رسوم تستهدف المسلمين وتتعمد الإساءة إلى الإسلام ورسول الله (ص). فهذا النوع من الردود كشف فعلاً عن وجود تعارضات في توجهات المسئولين والمثقفين ومختلف النخب السياسية والحزبية. فالكتلة المثقفة في كل بلد أوروبي انشطرت مواقفها وعلى غير عادتها إلى تيارات تعارضت في قراءاتها لتلك الرسوم بين مؤيد ومتحفظ ومستنكر. وهذا الاختلاف من المؤشرات الجيدة ويعطي فرصة للمسلمين لتصحيح تلك الصورة المشوهة التي تستغلها القوى العنصرية والنازية الجديدة والفئات المريضة نفسياً وثقافياً وايديولوجياً.
تفاوت ردود الفعل على تجاوزات ارتكبت بحق المسلمين يشكل إذاً بداية للكشف عن حقيقة ما حصل وتحديد الجهات التي تقف وراء اثارة النعرات لتحشيد الشارع ضد الأقليات المسلمة وتأليب الرأي العام لمصلحة مافيات (لوبيات) المال والسلاح والنفط تغطية لقرارات سياسية جديدة يراد اتخاذها ربما من وراء ستار العصبيات الدينية والاستعلائية والشوفينية.
مثل هذه الانقسامات في الكتلة المثقفة الأوروبية وعدم توافقها على موقف موحد ضد الإسلام والمسلمين تعتبر ظاهرة نادرة و خطوة استثنائية في سياق تاريخي اعتمد قاعدة التوحد ضد عالم مختلف ويقع جغرافياً على خطوط تماس حضارية بين القوتين الدينيتين. وهذا الجديد في موضوع التعامل مع العالم الإسلامي يدل على بدايات يأس أخذت تضرب جوهر الكتلة المثقفة في أوروبا. واليأس أحياناً يدفع نحو الملل والضجر من الصراع الدائم ويشجع على إعادة القراءة والتفكير ويكسر تلك الوحدة المتراصة على بعضها ضد «الغريب» و«الأجنبي» و«الدخيل» و«المتطفل».
هذا الانكسار الداخلي لا يعني بدايات تحول من السلب إلى الإيجاب. فالمسألة تحتاج إلى وقت لتحقيق التغيير المطلوب. إلا أن مجرد ظهور قوة من داخل الثقافة الأوروبية - المتماسكة عموماً على قواعد نظر مشتركة - ترفض إهانة المسلمين والإساءة إلى معتقداتهم تعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح ويمكن البناء عليها لتصحيح تلك الصورة المشوهة عن الإسلام... وهي صورة متأصلة تاريخياً في الثقافة الأوروبية وتتصل في بعض جوانبها السياسة بالدين والثقافة بالمخاوف.
العداء للإسلام في أوروبا ليس جديداً فهو موجود في الشعر والأدب والمسرح والرسوم والفنون والمنحوتات والفلسفة والسينما... وحتى في الخرافات والاساطير. فهو في جوهره مختلط وتتداخل في شبكة منظوماته الفكرية كل عناصر الثقافة التي تعود أحياناً إلى قرون مضت حين كانت الحضارة الإسلامية تقود العالم. وحتى بعد أن تراجع العالم الإسلامي عن القيادة وحلت مكانه الحضارة الأوروبية... استمر العداء يتصاعد.
مثل هذه الأنواع من المشاعر التي تكبر سلبياتها في الصعود والهبوط يصعب كسرها وتجاوزها من دون توجيه ضربات من الداخل لتلك الثقافة المتكتله على مجموعة فرضيات غير صحيحة عن الإسلام والمسلمين. وما حصل أخيراً مجرد بداية على طريق طويل وشائك... ولكنه وهذا هو المهم بداية على طريق صحيح
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1249 - الأحد 05 فبراير 2006م الموافق 06 محرم 1427هـ