يدير محمد حسون في حي نوريبرو وسط مدينة كوبنهاغن متجراً للخضراوات والفاكهة المستوردة إلى الدانمارك من بلدان آسيوية وأوروبية. إنه حي شعبي يعيش فيه سكان محليون مع أجانب من كل صوب وحدب وفي الغضون يعيش أبناء الجيل الثالث منهم مع طلبة ومثقفين وفنانين دنماركيين. متجر محمد حسون يعرف منذ أيام باسم متجر إسلامي حيث دعت منظمات متطرفة محلية إلى مقاطعته، لكن محمد حسون فخور لأن زبائنه الدانماركيين بصورة خاصة مازالوا يترددون عليه ومنهم من طيب خاطره وأدان الإهانة التي وجهتها صحيفة دنماركية لآخر الأنبياء محمد (ص). محمد حسون يزن كل كلمة بأن ينطق بها هذه الأيام، لكنه لم يبخل في القول ان القوانين في الدنمارك هذه الأيام عنصرية.
ماذا حصل فجأة للدنمارك؟ كسائر الدول الاسكندنافية المجاورة كان يشار إلى هذا البلد بأنه متحضر ومنفتح على العالم فهل نحن على خطأ في تقييمنا لهذا البلد؟ مما لاشك فيه أن مملكة الدنمارك لديها مشكلة مع المسلمين الذين يعيشون في أراضيها. لكن هذه المشكلة تفاقمت وأصبحت مشكلة الدنمارك مع المسلمين في العالم كافة. الاحتجاجات ما زالت مستمرة في العالم الإسلامي منذ أن قامت صحيفة «َمَُُّّذ َّلَفٌٌٌّت» بنشر اثني عشر صورة كاريكاتير تسخر من سيدنا محمد (ص). قامت على الاثر السعودية وليبيا بسحب سفيريها من الدنمارك وصدرت دعوات إلى مقاطعة البضائع الدنماركية في العالم العربي واحتل متظاهرون فلسطينيون في غزة مكتباً تابعاً للاتحاد الأوروبي وطلبوا من الموظفين الدنماركيين مغادرة المناطق الفلسطينية. يرى المحللون أن هذه مجرد بداية لحملات مناهضة للدنمارك. محمد حسون يشعر أيضا بالإهانة كلما تذكر الصور التي تسخر من سيدنا محمد (ص) وقال: لاشك أن من قام برسمها ونشرها شخص أحمق فقد تجاوز الخط الأحمر.
يعيش محمد حسون منذ عشرين سنة في الدنمارك وقال إنه سعيد بحياته في هذا البلد اللطيف. لكن محمد قال إن مشكلة الدنمارك أن السلطة فيه بأيدي حكومة سيئة. صحيح أن الحكومة لا تتحمل مسئولية نشر الصور التي استفزت مشاعر 1,5 مليار مسلم في العالم، وتقول إن الأمر يتعلق بحرية الصحافة والتعبير عن الرأي، إلا أنها فجرت مناقشات ساخنة بعد النشر يتفق مع سياسة الحكومة الدانماركية تجاه المسلمين التي توصف بأنها متشددة، منذ العام 2001 يترأس فوج راسموسين حكومة ائتلافية تنتهج سياسات يمينية ويعتمد استمرارها في الحكم على حزب الشعب اليميني المتطرف الذي دخل البرلمان في كوبنهاغن بسبب حملات التخويف من الأجانب والمسلمين خصوصاً.
تتزعم حزب الشعب سيدة كانت تعمل سابقا خادمة في المنازل اسمها بيا كيارزجارد. وهي اليوم ربما أبرز سياسية يمينية متطرفة في أوروبا. وهي تدفع بحكومة راسموسين لتبني سياسات مناهضة للأجانب وتهدد بالاستقالة من الحكومة إذا لم يتم لها ما تريد ما سيؤدي لانهيار حكومة راسموسين. من بين ما سعت له بيا كيارزجارد ونجحت فيه: فرض إجراءات مشددة على سياسة الأجانب. من نتائج هذا التشديد تراجع كبير في عدد الأجانب الوافدين على هذا البلد. في العام 2001 سمحت السلطات المختصة لنسبة 53 في المئة من الذين طلبوا حق اللجوء السياسي بالبقاء في الأراضي الدنماركية. في العام 2004 تم السماح لنسبة 9 في المئة فقط. وقد وجه المجلس الأوروبي في ستراسبورغ حديثاً انتقادات قوية لسلوك المملكة الدنماركية حيال طالبي اللجوء السياسي لكن نائب رئيس حزب الشعب بيتر سكاروب رد بصفاقة على المجلس الأوروبي داعيا إياه إلى أن يغلق فمه.
المستوى المتدني لسكاروب يعكس مستوى النقاش بشأن موضوع الأجانب الدائر حالياً في الدنمارك. قبل وقت قصير قالت مرشحة حزب الشعب اليميني المتطرف لمنصب عمدة كوبنهاغن لويز فريفريت في سياق حديثها عن سياسة إدماج الأجانب: ينبغي التخلص من خلايا السرطان في جسم سليم. يذكر أن لويز كانت بائعة هوى وظهرت في أفلام دعارة عدة وعلى موقعها الإلكتروني وصفت المسلمين بالقتلة والمعتدين ومضت تقول إنه لحسن الحظ ليس في الدنمارك عقوبة الإعدام لإنزال أشد العقاب بهم. حين صدرت احتجاجات على سلوكها نفت لويز أن تكون هي التي ذكرت هذا الكلام وقالت إن معد الموقع هو الذي فعل ذلك. مازالت لويز فريفريت تحتل مقعداً في البرلمان الدنماركي لكنها أجبرت على التخلي عن منصب المتحدثة باسم الحزب.
في الدنمارك، مواطنون محليون لا يطيقون سلوك بلدهم تجاه الأجانب، بينهم الكاتب كلاوس ريفبييرغ الذي اتهم الحكومة والأحزاب اليمينية بشن حملة وصفها بتنظيف الدنمارك من الأجانب. وقال إنه لو تم لهم ما يريدون لقاموا بترحيل الأجانب إلى بلدانهم اليوم قبل الغد. سويا مع أحد عشر من زملائه تحملوا تكاليف نشر إعلان في صحف محلية عبروا فيها عن نقمتهم حيال اللهجة القاسية التي يستخدمها السياسيون في الحكومة والأحزاب اليمينية عند الحديث عن الأجانب. من بين الذين وقعوا على الإعلان كارستن ينسن وهو أحد أبرز الأدباء في الدنمارك. ينسن الذي يبلغ 55 سنة من العمر طرح على نفسه سؤالاً يتداوله كثيرون داخل وخارج الدنمارك: ما الذي حصل لهذا البلد الذي كان ذات يوم ليبراليا ومنفتحا؟ بلد الهيبيين وأول بلد وافق على قانون زواج الجنس الواحد. الإجابة التي توصل لها ينسن: نعم، كانت الدنمارك بلداً متسامحاً، لكن ليس مع من هم ليسوا دنماركيين.
منذ وقت يشعر 5 ملايين دنماركي بالخوف من هيمنة أجنبية على بلدهم. في السابق كانوا يخافون من الألمان أما اليوم فإنهم يخافون من المسلمين على حد تعبير ينسن. وقال إن الشعب الدنماركي مازال يعاني من مرض الخوف الذي نشأ في العام 1864 حين قامت حرب بين ألمانيا والدنمارك. زاد شعور الخوف في العام 1940 بعد احتلال الألمان أراضي الدنمارك. كون اليوم يقوم الدنماركيون بشتم المسلمين لا يعود ذلك لأنه في العام 2001 تسلم السلطة رئيس وزراء يميني اسمه راسموسين بل ان حملة الشتائم بدأت قبل 20 سنة. في ذلك الوقت لم تتوفر وظائف عمل للسكان المحليين لكن التهجم على الأجانب استفحل في السنوات القليلة الماضية وأصبح من السهل أن يقوم السياسيون باستخدام عبارات قاسية ضد الأجانب في لقاءات الصالونات السياسية والمهرجانات الخطابية. يبقى السؤال: أين هم الاشتراكيون؟ يمكن القول إنهم لا يشتمون الأجانب، لكنهم لا يدافعون عنهم أيضا كما يقول الأديب ينسن. ليس هذا عملاً حقيقياً للمعارضة، وخلص للقول: نعيش مأساة سياسية في الدنمارك. يشعر كارستن ينسن بالقلق خشية أن تسهم المناقشات الساخنة في دفع مسلمي الدنمارك إلى التمرد والقيام أعمال شغب مثلما حصل حديثاً في فرنسا. من شأن هذه المناقشات أن تجعل حياة الأجانب الذين يبحثون عن وظائف عمل صعبة. نسبة 45 في المئة من الشبيبة من أصل أجنبي، من دون وظائف عمل على رغم انتعاش الاقتصاد الدنماركي حيث نسبة البطالة في هذا البلد منخفضة وتبلغ 5,5 في المئة.
وزيرة الإدماج الدنماركية تدعى ريكي هفيلسهوغ وهي في سن الـ ،35 ما يكشف أنها حققت قفزة كبيرة في العمل السياسي. تم إضرام النار في مرآب بيتها بعد تسلمها منصبها وهذا أول اعتداء على مسئول سياسي في الدنمارك وتحملت مسئوليته جماعة ناقمة على سياسة إدماج الأجانب. تعرف الوزيرة الشابة أن حضور صحافيين أجانب لمكتبها ليس هدفه سماع محاضرات عن إدماج الأجانب وإنما بسبب الأزمة الخطيرة. في المدة الأخيرة تم تعديل قوانين الأجانب بحيث يسمح بزواج الدنماركي من أجنبية فقط بدءا من سن 24 سنة كي يجري وضع حد للزواج المتفق عليه بين العائلات الأجنبية. هذا القانون ساهم في تراجع عدد الأجانب في الدنمارك خلال السنوات الأربع الماضية من 7 في المئة إلى 5 في المئة.
في الدنمارك يجري عزل الدنماركية عن بلدها إذا تزوجت من أجنبي ليست له علاقة قوية على حد تعبير المسئولين هنا مع الدنمارك. لتوضيح ذلك تحدثنا مع بوليتي كورنوم البالغة 31 سنة وهي رئيسة منظمة (زواج بلا حدود. بوليتي دنماركية لم تعد تستطيع العيش في بلدها. في العام 1999 زارت مصر وتعرفت على زوجها الحالي وتزوجا في القاهرة. لكن السلطات الدنماركية، اعترضت عليهما حين حاولا المجيء للعيش في الدنمارك في العام 2003 وطلب منها أن تعيش في بلد زوجها. وفقا للقانون الجديد اضطرت بوليتي للبقاء خارج بلدها وتعيش اليوم مع زوجها في هلسينبورغ وهذه مدينة سويدية صغيرة قريبة من الحدود مع الدنمارك. كل عام يصل للعيش في السويد نحو ألفين من الدنماركيين الذين تزوجوا من أجانب لأن القوانين السويدية أكثر ليبرالية من الدنماركية. كثير منهم يعملون في الدنمارك. تصف بوليتي كورنوم النقاش الحالي بأنه مشين وقالت إنها تزعم أنها سويدية لأنها تشعر بالخجل إذا قالت إنها دنماركية.
الأديب كارستن ينسن يأمل في أن تقوم دولة كبيرة مجاورة مثل ألمانيا أو السويد بابتلاع الدنمارك حتى نستطيع العودة للعمل بقوانين ليبرالية. محمد حسون لا يخفي خوفه من المستقبل وقال إن أكثر ما يخشاه وقوع أعمال عنف خاصة وقد تعرض محله لاعتداء بتاريخ الثالث عشر من سبتمبر/ أيلول العام 2001 بعد يومين على هجوم (القاعدة) على نيويورك وواش
العدد 1248 - السبت 04 فبراير 2006م الموافق 05 محرم 1427هـ