من أروع ما يروى من قصص المجتمع الإسلامي الأول، قصة حنظلة بن أبي عامر الأنصاري الأوسي، الذي كان من سادات المسلمين وفضلائهم، أسلم مع قومه الأنصار لما قدم النبي (ص) المدينة، ويعد في الطبقة الثانية من الصحابة. تزوج جميلة بنت عبدالله بن أبي بن سلول، ودخل بها في صبيحة يوم أحد، فلما سمع منادي الجهاد خرج مسرعاً ولحق بجيش المسلمين، بينما أرسلت زوجته إلى أربعةٍ من قومها فأشهدتهم أنه دخل بها. وفي ساحة المعركة، لما انكشف المسلمون في أحُد اعترض حنظلة لأبي سفيان وضرب عرقوب فرسه، فوقع أبو سفيان فاستعلى عليه حنظلة وكاد يقتله، فأدركه أحد المشركين فخلص أبا سفيان، وقتل حنظلة. فقال أبوسفيان: «حنظلةٌ بحنظلة»، يعني ابنه الذي قتل كافراً يوم بدر. أما رسول الله (ص) فقال: «رأيت الملائكة تغسل حنظلة... بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة»، فلقب «غسيل الملائكة»، حتى افتخرت به الأوس على الخزرج. وكانت ثمرة ذلك الزواج المبارك الذي لم يدم أكثر من ليلةٍ واحدة، ابنه عبدالله، الذي ولد بعد سبعة أشهر، ولما توفي النبي (ص) كان قد بلغ سبع سنين.
بعد موقعة أحد، جرت وقائع أخرى كثيرة، حتى توقّف التاريخ بعد سبعة وخمسين عاماً عند أعتاب كربلاء. في تلك القرية العراقية الصغيرة، تم تصفية 73 رجلاً وشاباً وطفلاً، من أشهر أحرار العالم على مر العصور، في ظرف ساعاتٍ معدودة، في حادثةٍ مهولةٍ هزّت الضمير الإسلامي في تلك الفترة المظلمة والمخزية من التاريخ.
بعد زلزال كربلاء، خرج عبدالله بن حنظلة على رأس وفدٍ من المدينة المنوّرة باتجاه دمشق، لا ندري هل هو وفد استطلاعٍ أم احتجاجٍ أم ماذا، لكن يزيد بن معاوية أكرمهم وأعطاهم عطايا كثيرة لتجميل صورة حكمه في أعين أهل المدينة، ولكنهم رجعوا يقولون: «قدمنا من رجلٍ ليس له دين، يشرب الخمر ويضرب بالطنابير، وتعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده اللصوص». وقام عبد الله فقال: «جئتكم من عند رجلٍ لو لم أجد إلاّ بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم، وقد أعطاني وما قبلت منه عطاءه إلاّ لأتقوّى به». وهكذا أعلنت مدينة الرسول خلع طاعة الحكم الفاجر والثورة عليه، وطردوا أميره وبقية الأمويين منها، فأرسل يزيد جيشاً بقيادة مسلم بن عقبة لإخماد الثورة، فالتحم الفريقان في موقعة «الحرة»، استباح خلالها الأمويون مدينة الرسول، وسفكوا دماء أبناء الأنصار، وهتكوا حُرمات المسلمات، «ثمّ أخذَ الناسُ أن يُبايعوا على أنّهم عبيدٌ ليزيد» كما قال اليعقوبي في تاريخه. وكان بين القتلى عبدالله بن حنظلة وأولاده جميعاً العام 63 هـ.
حقائق دامغة ذكرها المؤرخون، وجرائم كبرى تكفي إحداها لخلود صاحبها في النار، لكن فئة من المتأولين «المرجئين»، من «دعاة آخر موديل»، مازالوا يخطّئون ويكذّبون أهل المدينة جميعاً، لتبرئة الطاغية يزيد من كل جرائمه، فالأصل عندهم «أنها لا تصح»! فعلى من يقع العتاب إذا كثر الحشاشون...
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1248 - السبت 04 فبراير 2006م الموافق 05 محرم 1427هـ