العدد 1246 - الخميس 02 فبراير 2006م الموافق 03 محرم 1427هـ

التقدم العمراني يطور المعرفة الأوروبية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

لم توقف أوروبا في القرن السابع عشر تقدمها العمراني وتوليد فلاسفتها. فهذا القرن شهد تحولات معرفية كبرى أسهمت لاحقاً في التأثير على تشكيل منظومات سياسية سيكون لها دورها في تأسيس وعي حديث لعلاقة الدولة بالمجتمع. ويمكن اعتبار القرن السابع عشر بداية تلك المرحلة أو جسر الانتقال من طور إلى آخر. فبعد هذا القرن ستبدأ تلك الأفكار في الانتقال من نظريات عامة موضوعة كمفاهيم في الكتب والدراسات إلى حيّز التطبيق والممارسة. وسيبدأ بعدها رجال الدولة في التعامل معها كأفكار يمكن الاستناد إليها للتعاطي السياسي/ الدستوري وتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع.

شكل هذا القرن بداية تحول أوروبا الزمني من دائرة اختلطت فيها المراحل بسبب تشابك أنماط الإنتاج إلى دائرة أخذت تسيطر عليها نماذج محددة من أنماط الإنتاج. والقرن السابع عشر - الذي اختلطت فيه المفاهيم وتصارعت - شكّل من بدايته إلى نهاياته سلسلة صدمات أثمرت لاحقاً في القرن الثامن عشر تشكيل ما يسمى الوعي الدستوري الذي ينظم الحقوق والواجبات ويفصل بين السلطات. فتأسست لاحقاً نماذج دستورية في نهاية القرن الثامن عشر وتحديداً حين أقدم رجال الدولة في الولايات المتحدة أولاً (ثورة الاستقلال)، وفي فرنسا ثانياً (الثورة الفرنسية)، على تضمين أفكار فلاسفة القرن السابع عشر ونظرياتهم السياسية كمصادر ومراجع وأحياناً كنصوص دستورية أسست قواعد التعامل بين المجتمع والدولة الحديثة.

هذا التحول التاريخي (الانتقالي) كان يعكس في جوهره بداية التحول السياسي. وكان لابد أن يأخذ التحول مداه الزمني ويندفع جغرافياً من دائرة القارة إلى الخارج (الولايات المتحدة) ليشكل قواعد نظرية لدستور معاصر تأسست عليه دولة في عالم قيل إنه اكتشف حديثاً. فمن أميركا ستبدأ الحداثة السياسية تشق طريقها للتمرد على الاستعمار البريطاني والاستقلال عن العالم القديم. وهذا التمرد سيحدث هزات ارتدادية وسيترك تأثيره المعكوس على دول القارة الأوروبية.

فكرة الحداثة السياسية أنتجت في أوروبا في القرن السابع عشر وأثمرت في الولايات المتحدة في نهاية القرن الثامن عشر لترتد من جديد على القارة وتبدأ بزعزعة استقرارها القائم على محاصصة تاريخية تتألف من القديم والجديد. ويمكن ملاحظة هذا الانتقال على المستوى القاري العام من تلك الحلقات الفلسفية الأخيرة في نهايات القرن السابع عشر. فهذه الحلقات وُلدت كلها في ذاك القرن ولكنها رحلت عن الدنيا في القرن الثامن عشر. وهي بذلك تمثل زمنياً تلك الخطوات الانتقالية من زمن اختلاط المفاهيم إلى زمن آخر سيشهد إعادة فرز لتلك الأفكار تمهيداً لتشكيل رؤية فلسفية سياسية (دستورية) واضحة تنظم العلاقة بين الحاكم والمواطن. فظهرت مثلاً في الحلقات الأخيرة من سلسلة الفلاسفة أسماء ستلمع كمصادر للفكر التنويري في دستور الولايات المتحدة خلال حرب الاستقلال والدستور الفرنسي خلال الثورة. وأبرز هؤلاء الإنجليزي جون لوك. لوك هو المؤسس الثاني للفلسفة السياسية بعد هوس. ولد لوك في العام 1632 (1041هـ) وتوفي في العام 1704 (1116هـ) مطلع القرن الثامن عشر. كذلك الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبتيز الذي وُلد في العام 1646 (1056هـ) وتوفي في العام 1716 (1128هـ). وأيضاً الفيلسوف جورج بركيلي وُلد في 1685 (1096هـ) وتوفي 1753 (1166هـ) وأخيراً جوزيف باتلر ولد في 1692 (1103هـ) وتوفي العام 1752 (1165هـ). الأخير يمكن اعتباره من نتاجات القرن الثامن عشر ولكنه عملياً يمثل آخر حلقات السلسلة التي راكمت المعرفة ونقلتها من وسيط إلى آخر وصولاً إلى عصر الثورات والانقلابات والحروب في النصف الثاني من القرن.

إلا أن لوك يعتبر الأهم من بين كل هؤلاء نظراً إلى تأثيره السياسي المباشر في زمنه ثم تأثيره غير المباشر في زمن غيره. فلوك فعلاً كان أحد أبرز المؤسسين للفكر السياسي المعاصر في زمنه وزمن غيره. وهذا ما أشار إليه برتراند راسل حين أوضح كيف نجح لوك في أن يوصل أفكاره التجريبية (نظرياته السياسية) إلى جيله ويجعلها مقبولة لدى الكثير من معاصريه، الأمر الذي أعطى لفلسفته قوة للاستمرار والتواصل، ما جعلها تؤثر مباشرة على رجال الاستقلال في لحظة إعلان قيام الدولة الأميركية.

ربما تكون المصادفات لعبت دورها في إطلاق فلسفة لوك السياسية ونشرها، إلا أن هذا الفيلسوف في النهاية كان نتاج تراكم المعرفة التي شهدت طفرة في عصره وخصوصاً تلك التي صاغها ديكارت على الصعيد الفلسفي الوجودي (الشك) أو على الصعيد الفلسفي السياسي (هوبس). لوك لم يكن خارج ذاك السياق التطوري لكنه شكّل إضافة نوعية أعطته ميزة التعلم من حوادث زمنه والإطلال عليها برؤية سياسية لعبت دورها في التأثير على جيله.

هوبس مثلاً تحدث عن توحش الدولة ودورها التدخلي في صوغ حياة الجماعة الأهلية. بينما لوك انطلق من هذه الرؤية ليعيد تفكيك وظائف الدولة وصوغ هيكلها التنظيمي لإعادة ترتيب الصلاحيات الدستورية للمؤسسات.

أفكار لوك لم تأتِ هكذا وإنما جاءت تلبية لحاجة ورداً على تعقيدات سياسية شهدها في عصره. فهذا الفيلسوف التجريبي والمؤسس للفكر الإنجليزي المعاصر ولد في أسرة تمتهن السياسة والعمل البرلماني، الأمر الذي أتاح له التعلم في مدرسة وستمنستر ثم جامعة أكسفورد. وحين بلغ 34 عاماً جمعته المصادفة مع السياسي انطوني أشلي كوبر الذي تبوأ منصب حاكم مقاطعة شافتسبري ثم وزيراً للعدل.

بدأت المصادفة حين طلب اشلي من لوك أن يكون طبيبه الخاص. فالفيلسوف درس الطب لكنه لم يتفرغ ليمارس مهنته في هذا الحقل. وشكلت المصادفة (اللقاء) بداية جديدة في حياته وتحول لوك من مراقب للحوادث والتطورات السياسية إلى صاحب رأي يتبنى وجهة نظر في التعامل مع المشكلات تحولت لاحقاً إلى رؤية نظرية تعتمد على مبدأ تجريبي في وضع الحلول.

وبسبب هذه العلاقة الخاصة بين الفيلسوف ورجل الدولة تولدت سلسلة أفكار نجح لوك في وضع تصوراتها النظرية عن الإصلاح والتسامح الديني والحريات الصحافية. ففي تلك الفترة شهدت بريطانيا حوادث سياسية خطيرة فجرت مشكلات كثيرة بين الدولة (الملك) ونزعة الكنيسة البيوريتانية (الدينية المتشددة) وأعضاء البرلمان ورجال السياسة. وامتدت تجاذبات تلك الفترة إلى سنوات طويلة استمرت من العام 1660 إلى .1680 في هذه الفترة تأسست نظريات لوك السياسية ولعب دوره النشط في التأثير على أفكار صديقه (رجل الدولة) الذي مال نحو تأييد الاتجاه الليبرالي وإعطاء دور للرأسمال التجاري في الحياة السياسية. وفي هذه الأجواء المضطربة كتب لوك في العام 1667 (1078هـ) مقالاً عن التسامح، أظهر فيه رفضه لتدخل الدولة في تنظيم كل شئون الكنيسة. وحين اتهم الإيرل (انطوني اشلي) بالتآمر على الملك في العام 1679 (1090هـ) اضطر لوك في العام 1683 (1094هـ) إلى مغادرة لندن إلى هولندا بسبب صداقته للسياسي. وهناك التقى مصادفة الأمير وليم الذي أصبح في العام 1689 (1100هـ) حاكم انجلترا، فتشجع على العودة إلى بلاده.

وبسبب هذا التحول السياسي الذي شهدته انجلترا بدءاً من العام 1688 أقدم لوك على مناقشة نظريات هوبس عن الدولة وسجل ملاحظاته في كتاب حمل عنوان «مقالتان عن الحكومة» صدر في العام 1690 (1101هـ)، حدد فيه وجهة نظره عن وظائف الدولة والحدود التي تنتهي فيها صلاحياتها وتدخلاتها. وشكل هذا العمل الفكري الفلسفي نقطة تحول في الوعي السياسي التجريبي بحكم علاقاته التي امتدت وتنوعت على أكثر من 35 سنة من الصلات المباشرة مع رجال الدولة وكبار حكام المملكة لاحقاً.

كتب لوك الكثير من المقالات والأبحاث التي تتحدث عن العقل والوعي والمفاهيم الإنسانية ووظائف الذهن، وانتقد تلك الأفكار التي تبالغ في الكلام عن الفطرة والتلقائية. فهذا الفيلسوف السياسي كان من أنصار التجريبية والتعلم الحسي والعلوم التي تأتي عن طريق الاكتساب والمصادر الخارجية. وبسبب هذا النزوع نحو التعلم والاكتساب والتجربة الذي تكوّن أصلاً بحكم علاقاته السياسية أنتج في النهاية تصورات عملية عن ممارسة الحكم ودور الدولة في تنظيم المجتمع والعلاقات على قاعدة الفصل بين السلطات وتحديد وظائف قوى الإنتاج ودورها في التأثير على صوغ القرارات وتوجيه الصلاحيات. فهذه الأفكار التحديثية التي تناولت أنشطة الدولة وقطاعاتها وحددت الشروط الموضوعية لتدخلها جاءت بناءً على تجربة خاصة تمثلت في علاقات فيلسوف مع رجال قانون يتعاطون السياسة.

نظريات لوك عن حقوق المواطن المدنية وواجباته وكلامه عن الحرية والحياة وحق الملكية والمساواة السياسية والإصلاح (التربية والتعليم) لم تكن من أجل التسلية أو مجرد توهمات أيديولوجية (إرادوية) وإنما جاءت في ظرف تاريخي شكّل وعيه وصقل أدواته وأعطاه القدرة على الابتكار والبحث عن الحلول. فالفكر السياسي (الفلسفة التجريبية) الذي أنتجه لوك كان رداً على حاجة وله وظيفة محددة، ولكن المصادفات جعلت من هذه الاقتراحات بداية تأسيسية ألهمت الكثير من السياسيين في القرن الثامن عشر وتحوّلت إلى مواد دستورية قامت عليها الدول المعاصرة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1246 - الخميس 02 فبراير 2006م الموافق 03 محرم 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً