منذ صدور قانون الجمعيات السياسية، ارتفعت جلبة يعلوها سخط من مختلف الجمعيات، وبالذات الجمعيات السياسية المعارضة، تدعو لفك الارتباط بالقانون الجديد عن طريق تأسيس أحزاب سياسية. جمعيات أخرى كررت لغة المساومة والتصالح التي ما فتأت تطلقها كلما نزلت نازلة، فراحت إحداها تتزعم دعوى المطالبة بتعديل القانون، بينما لهذه الجمعية 10 مقاعد في مجلس الشورى، ولم ينبس أحد منهم بكلمة (لا) أثناء التصويت على القانون، وهذه الحادثة أثبتت للمرة المليون ما كررته المعارضة حين وصفت أعضاء مجلس الشورى بجماعة البصّامين، يبصمون ساعة أرادت الحكومة ذلك. كانت هناك مزاعم عريضة تطلق من الأطراف المتضادة في مواقفها تجاه القانون، فطرف دعاة عدم التسجيل يزعمون إمكان تشكيل أحزاب خارج القانون، ودعاة التسجيل يزعمون قدرتهم على تشكيل حزب تحت مسمى جمعية سياسية من داخل القانون. وبعد إقراره وتسجيل الجميعات القائمة، صاغت بعض الجمعيات هياكلها التنظيمية على شاكلة الأحزاب السياسية. إلا أن السؤال الواقعي هو: هل مجرد إقرار هياكل تنظيمية على شاكلة الأحزاب يجعل من جمعياتنا السياسية أحزاباً سياسية وفق الإمكانات والظروف القائمة؟ لنترك الجواب لأحد تعريفات الحزب السياسي وأهدافه ووظائفه، ثم على ضوئه يمكن التقرير، فالحزب عبارة عن منظمة اجتماعية تمتلك جهازاً إدارياً كاملاً، ولها هيئة من الموظفين الدائمين (وليسوا متطوعين كما هو حال جمعياتنا)، ويمتد مناصرو الحزب لكل فئات المجتمع وطبقاته (وليس على أساس طائفي أو فئوي كما هو واقع الحراك في الجمعيات حالياً نتيجة سياسات الدولة السابقة)، وهؤلاء المناصرون كلهم يتحركون تحت مظلة وقيادة سياسة واحدة. وعادة ما يتم تشريع عمل الأحزاب في الدول التي تعيش تداولاً للسلطة، أي بمعنى أن تتنافس الأحزاب للوصول إلى السلطة التنفيذية وترؤس الحكومة، وكذلك السيطرة على السلطة التشريعية عن طريق حصد أكبر عدد من مقاعد البرلمان. وقضية تداول السلطة في البلدان الديمقراطية تختلف من نظام لآخر، ففي بريطانيا، فإن الحزب الذي يكسب أكثرية المقاعد، لوحده، أم بالتحالف مع مجموعات أخرى، يحق له تشكيل الحكومة، بمعنى السيطرة على السلطة التنفيذية ورئاسة الوزراء أيضاً. وفي هذا النظام غالباً ما يسود انسجام بين السلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (مجلس النوّاب)، لأن أعضاءهما من الحزب نفسه، وما تقدمه الحكومة للبرلمان عادة ما يجد تجاوباً منه. أما النظام الأميركي، ومثله أنظمة ديمقراطية كثيرة، ففي الغالب، يقوم الشعب باختيار الرئيس (ومن ثم الحكومة) من حزب، والسلطة التشريعية من حزب آخر، فتقوم الأخيرة بدورها اللجوء في مراقبة الحكومة وإحصاء أنفاسها عليها، ومحاسبتها أشد ما يكون الحساب في حال أية مخالفة.
الجمعيات ليست أحزاباً
بغض النظر عن كل ذلك، تبين بجلاء أن الجمعيات السياسية لدينا لا ترقى لمسمى حزب سياسي مهما حاولت مناغاة الأحزاب في هياكلها التنظيمية، بل هي تجمعات سُمح لها بالعمل السياسي في نطاق معيّن، تسعى من خلاله إلى تغيير يسمح بالإنتقال إلى حياة سياسية حزبية. ويكفي تناول محورين فقط لإثبات هذه الدعوى: أهداف ووظائف الحزب السياسي. أهداف الحزب السياسي: عادة ما يتم تشريع عمل الأحزاب في البلدان الديمقراطية من أجل تنظيم تداول السلطة، فهدفها الرئيسي يتمثل في الاستحواذ على السلطة، سواء التشريعية أو التنفيذية، أو معارضتها من أجل الضغط عليها أو من أجل إسقاطها والحلول مكانها، إلاّ ان هناك ما يطلق عليه بـ «الديمقراطيات التوافقية»، وهي التي تراعي مسائل عدة، كمسألة التوازنات الطائفية كما في لبنان، ومن ثم فهي ليست ديمقراطيات وفق مفهوم الديمقراطيات العريقة. وديمقراطية المملكة وفقاً لنظام الحكم القائم في خانة هذه الديمقراطيات، فالدستور خوّل الملك تعيين رئيس الوزراء وفقاً للمادة 33 من الدستور، وبذلك لم تبق سوى المنافسة على السلطة التشريعية، والاقتصار على معارضة الحكومة، وذلك من أهداف الحزب السياسي المعارض لحكومة الملك كما في التعبير المستخدم في بريطانيا. ولكن في الوضع الحالي، فحتى السلطة التشريعية وإن كانت تتمتع بقدر من الدور الرقابي، إلا انها بحسب دستور ،2002 منقوصة من عدّة جهات، فبالإضافة للصعوبات التي تجعل من إصدار قانون من قبل مجلس النوّاب أمراً مستحيلاً من دون رضا الحكومة، فإن نصفها معيّن، والنصف الآخر لا يعكس تمثيلاً صادقاً للإرادة الشعبية، فقانون الدوائر الانتخابية التي صدر بمرسوم قبل انتخابات ،2002 تم رسمه بعيون تعكس توجّسات طائفية وغير واقعية، فـ 33 ألف صوت في بعض المناطق، تساوي ألف صوت فقط في مناطق أخرى، بمعنى أن الصوت الواحد في مناطق يساوي 33 صوتاً في مناطق أخرى. وعليه فإن أهم هدف لقيام الأحزاب، وهو تداول السلطة، قد انتفى. بعض وظائف الحزب: يقوم الحزب بوظائف عدّة لتحقيق أهدافه، كأن يقدم مرشحيه للانتخابات، ويوفر الوسائل الفعالة لعامة الشعب من أجل نقد الحكومة والضغط عليها بشدّة، بل وحتى إسقاطها، ويقوم بتنشئة المواطنين على المستوى السياسي، ويراقب أعمال السلطة التنفيذية، وغيرها من وظائف تحتاج لبرنامج قوي يتم الأخذ به بإرادة وقوة. ولا شك أن الحزب يحتاج إلى إمكانات مادية كبيرة، فينبغي أن يكون لديه طاقم من الموظفين المتفرغين، لا المتطوعين. أما في حالنا، فالأعضاء الرئيسيون ليسوا سوى موظّفين في الدوائر الحكومية والشركات الخاصة، يقضون جل يومهم في الوظيفة، وأيديهم على قلوبهم خوف الفصل التعسفي حال السخط عليهم، ويحسبون ألف حساب قبل أن يرسلوا مقالاتهم للصحف المحلية أو التفوه بكلمة تنال من مسئول كبير أو متنفذ في ندوة عامة، فليست المسألة منحصرة في حرية إبداء الرأي والتعبير المتوفرة والتي يعترف بوجودها كل منصف في ظرفنا الحالي، ذلك أن هذه حرية شكلية ما دامت لا تمكّن الفرد من ممارستها فعلياً، إما بسبب قصور القانون في حماية الفرد في رزقه ووظيفته، أو القصور في ضمان تنفيذ القانون المنصف إن وُجد، وتنطبق على هذه الحرية مقولة بعض المتنفذين بلسان الحال: قل ما تشاء ونحن من سيحدد النتائج والعواقب التي ستنالها (أيها الحزبي،). غير أنه، حتى لو قامت جمعية سياسية ما بتوظيف موظفين متفرغين، فهي ليست حزباً ما دام إطار النظام السياسي منعكساً في الدستور بالذات، قد غيّب هذه الأهداف الرئيسية التي من أجلها يتم تشريع إنشاء وعمل الأحزاب، ويضعف الأدوار الأخرى، كالإقتصار على المعارضة المؤثرة مثلاً، وفي هذه الحال فإن مناغاة الأحزاب من خلال تقليد هياكلها التنظيمية وصرف الأموال على موظفين متفرغين قد لا يتعدى هدراً للمال بلا مردود مناسب، وهي بذلك قد تزيد نفسها أعباء فوق الأعباء الموجودة والعاجزة عن القيام بها أصلاً، وذلك بالتمدد الأفقي الذي قد يصعب السيطرة عليه والتحكم في مفاصله. وعادة ما يتم دعم الحزب عن طريق رجال الأعمال الذين يتجشمون في الحزب فائدة خاصة بهم عندما يصل للسلطة، ليستفيدوا من نفوذه وقدرته على تسهيل ورعاية مصالحهم، سواء على مستوى التشريعات أو غيرها. وفي الظروف التي يمارس أفراد السلطة التنفيذية وظائف أخرى تتمثل في التجارة والاستثمار، ويتحكمون في كل صغيرة وكبيرة، وكثير منهم يوظفون مناصبهم لخدمة شئونهم الخاصة، في ظل مثل هذه الظروف، وخصوصاً إذا كانت الغلبة للسلطة التنفيذية على التشريعية مكرسة دستورياً، يحجم رجال الأعمال عن دعم الجمعيات السياسية، فضلا عن الانضمام لها، خصوصاً إذا كانت جمعية تتخذ منها الحكومة موقفاً عدائياً، لذلك فالزعم بأن جمعية ما تعتبر حزباً سياسياً ما زال وهماً كبيراً ما لم تحل مشكلة التمويل وهي مشكلة أساسية.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1244 - الثلثاء 31 يناير 2006م الموافق 01 محرم 1427هـ