وُلدَتْ في السنة الخامسة من البعثة النبوية الشريفة، لتكون قرّة عين الرسول (ع)، وكانت أسرع اللاحقين به من أهل بيته، في مثل هذا اليوم عام 11 هـ، عن ثمانية عشر ربيعاً، كانت كافية لتملأ قلبه فرحاً وسروراً، وتملأ الخافقين ألقاً ونوراً.
أُرسِل أبوها رحمةً للعالمين، ليخرج قومه من الظلمات إلى النور، ولكنه لقي منهم صدوداً وعنتاً وعداءً شديداً، حتى حاصروه وأهله في شِعْب أبي طالب، ومنعوا عنهم الطعام، وفي تلك المحنة فقدت أمها خديجة (رض). ولما همّوا بأسره وتآمروا على قتله، هاجر إلى يثرب، وهناك لحقت به الفواطم، لتبدأ صفحةٌ جديدةٌ في حياة جزيرة العرب. وظلّت قريش تطارده هناك على بعد مئات الفراسخ، لتلتحم به في عدة حروب. وكان عندما يعود من معركة إثر معركة، تتلقاه ابنته الحنون لتمسح الغبار عن وجهه، والدم عن سيفه، حتى لقّبها بـ «أم أبيها»، فقد كان يحبها حُبّاً جَمّاً. وكان يقول: «كلّما اشتقتُ إلى رائحة الجنّة شممتُ رائحة ابنتي فاطمة»، كما روى الطبراني.
على أبواب الصبا، تقدّم لخطبتها كثيرون، وكان يردُّهم (ص) ردّاً حسناً، بقوله إنه ينتظر فيها أمر السماء، التي كانت تدّخرها لشخصٍ آخر يستحقها وتستحقه. وهكذا جاء يخطبها على استحياء بعد معركة بدر (2 للهجرة)، ودخل بها بعد معركة أحد (3 هـ). وتُجمع كتب السيرة أن هذا الزواج كان بسيطاً، لكنه أثمر أسرةً سعيدةً رغم صعوبة العيش، تعيش قيم الرسالة الجديدة. وفي هذا البيت الدافئ وُلدت أنجمٌ زهر: الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم. ونقل الخطيب البغدادي «ان الله سمّاها فاطمة لأنه فطمها ومحبيها عن النار»، بينما قال محب الدين الطبري «إن الله فطمها وولدها عن النار».
التواريخ تتكلم عن تفاصيل حياتها، في ذلك المجتمع الذي يعيش في ظروف ثورة، فكانت تستقي بالقربة حتى أثّرت في صدرها، وتطحن بالرحى حتى مجلت يداها (اخشوشن جلدها)، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت النار حتى أصابها ضرٌ شديد. بهذه التضحيات قامت أعمدة الدين الجديد.
هذه الأسرة الصغيرة التي يلفها رسول الله (ص) بكسائه، تصوم ثلاثة أيام، وتؤثر المحتاجين بطعامها، حتى ينتفض الصغار جوعاً، فينزل الله سورة الدهر لتُتلى أمجادهم عبر الدهور: «ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً»، تسجيلاً لهذا الموقف الأخلاقي النبيل.
عاشت في حضن من أوتي جوامع الكلم، فتفتقت أغصان البلاغة على لسانها. تقف في مجلس أبيها لتخاطب المسلمين: «جعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملة وإمامتنا أماناً من الفرقة، والجهاد عزاً للإسلام والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة وبر الوالدين وقاية من السخط وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد».
وتتحدّث عن أبيها بقولها: «داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة يجف الأصنام وينكث الهام حتى انهزم الجمع وولوا الدبر». وتسجّل حال العرب قبل البعثة: «وكنتم على شفا حفرةٍ من النار، مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الأقدام، تشربون الطرق وتقتاتون القد، أذلةً خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله بأبي محمد (ص)، بعد اللتيا والتي، وبعد أن مُني ببُهْمِ الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه (علياً) في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، مجتهداً في أمر الله... لا تأخذه في الله لومة لائم».
أية بلاغة؟ وبأي لسان تنطق؟ تخاطب الأنصار بقولها: «يا معشر النقيبة، وأعضاد الملة، وحضنة الإسلام. أنتم موصوفون بالكفاح معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت والخيرة التي اختيرت لنا، قاتلتم العرب وتحملتم الكد والتعب وناطحتم الأمم». إنها البلاغة الصاعقة وسحر الكلام.
عشر سنوات قضتها في الهجرة، مليئةً بالصعاب وقصص الكفاح والمعاناة، كان أصعب ما مرّ بها رحيل الأب الرحيم، الذي ترك فراغاً لا يسدّه شيء. ظلت بعده حزينة تندبه وتبكيه، وسرعان ما لحقت به في مثل هذا اليوم، الثالث من جمادى الآخرة. وأغرب ما في سيرتها أنها أوصت بأن تُدفن سراً في جوف الليل، وعُفّى قبرها، ولم يحضر دفنها والصلاة عليها إلا عددٌ محدودٌ جداً من الأهل والمقرّبين، لتترك لغزاً تاريخياً يتحدّى عقول الباحثين عن الحقيقة عبر العصور
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 3145 - الأحد 17 أبريل 2011م الموافق 14 جمادى الأولى 1432هـ