«إننا نعتبر أنفسنا بيتاً واحداً وأسرة واحدة وهذا كان السر في نجاح البحرين عبر العصور.... إن هذه الوقفة عكست أصالة الشعب البحريني وحرصه على التكاتف والترابط لكل ما فيه خير وطنهم وأهلهم جميعاً. إن البحرين كانت وما زالت وستبقى رمزاً للتعايش والتواصل والتعاون ونبذ الفتنة والانقسام وسوف نظل بإذن الله تعالى أسرة واحدة متكاتفة».
تحمل هذه العبارات من الكلمة القصيرة التي وجّهها صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة إلى لفيف من الشخصيات الوطنية الذين التقى بهم في قصر الروضة مساء أمس الموافق 17 مارس/ آذار 2011 الكثير من المدلولات التي تعكس موقف جلالته من الأزمة، ورؤيته لسبل معالجتها، وطرق الخروج منها، من أجل بناء وطن معافى، قادر على التطور بشكل سليم وفي الطريق الصحيح. عديدة تلك النقاط التي يمكن التوقف عندها، لكن الأهم منها جميعاً هي إشارته الواضحة إلى مسألتين استراتيجيتين، الأولى هي التكاتف والترابط، و معناهما السياسي «الوحدة الوطنية»، والثانية وتلك هي الأهم «نبذ الفتنة والانقسام»، ومفهومها الاجتماعي محاربة الطائفية، وتعني كلتاهما مجتمعتان التأسيس لمجتمع معاصر تُسيّره آليات «المواطنة الصالحة». من جانب آخر، وعندما تنصهر هذه المدلولات الثلاثة في بوتقة واحدة، وتجري قراءتها بشكل متمعن، ففي وسعها أن تشكل برنامج عمل وطني حقيقي، يمكن أن ينتشل البلاد من الأزمة الممسكة بتلابيبها أولاً، ويرسم معالم المستقبل ثانياً. على أنه، ولكي يتحول ما ورد في كلمة جلالته إلى كل ذلك ينبغي العمل من أجل تحقيق ما يلي:
1 - التمسك بالوحدة الوطنية، ولا يقصد جلالته هنا إطلاق شعار سياسي فحسب، بقدر ما يطالب بإجراءات عملية ملموسة تلتزم بها الدولة سوية مع القوى السياسية المعارضة. فعلى مستوى الدولة يتوخى جلالته أن تدرك الدولة ومؤسساتها، أنه بات من الضروري أن لا تتجاوز الإجراءات الأمنية مقتضيات القضاء على مسببات الإرباك، ومن أجل تحقيق الاستقرار المنشود. وبالتالي فليس من العدالة أن تنتهك حقوق المواطن تحت طائلة إنجاز مهام استتباب الأمن وسيادة الأمان. والمدلول العملي لهذه الدعوة هو التقيد بما جاء في الدستور، وما انبثق عنه من قوانين وأنظمة. أما بالنسبة إلى المواطن، ففي كلمة جلالته حث واضح للمعارضة كي تكف عن القيام بكل ما من شأنه استفزاز المؤسسة الأمنية، أو تعطيلها عن أداء دورها، أو جرها إلى معارك غير مبررة تستنزف قوى الدولة من جانب، وتقض مضاجع المواطنين الآمنين من جهة ثانية. ربما يبدو الوصول إلى حل لهذه المعادلة ضرباً من المستحيل، لكن ذلك يتحول إلى حقيقة ملموسة، عندما تصفى النفوس وتتضافر الجهود، ويتفق على الأهداف، التي تضع مصلحة الوطن والمواطن فوق أي اعتبار.
2 - نبذ الفتنة والانقسام، وليس لهذا التعبير من معنى آخر سوى محاربة الطائفية، والعمل على اجتثاثها من جذورها الخبيثة. ومحاربة الطائفية لا يمكن أن تتحقق بالنوايا فحسب، أو عن طريق المواقف اللفظية فقط. فهي من الخطورة والانتشار بحيث تتطلب محاربتها برامج ملموسة تنفذ على مرحلتين: الأولى قصيرة، ولا تتجاوز الحملات الإعلامية والبرامج التوعوية المكثفة، والثانية طويلة الأمد وتصل إلى البرامج التعليمية في المراحل المبكرة من الصفوف المدرسية. هنا تتحول الحرب على الطائفية من مجرد شعارات جوفاء تلوكها الألسن، وتتستر وراءها بعض القوى التي تحارب الطائفية لفظاً وتكرسها، وترسخ جذورها فعلاً، إلى معارك يومية تزرع في نفوس أبنائنا نبذ الطائفية والعمل بذهنية الوطن الواحد.
3 - العمل من أجل إرساء أسس «الأسرة الواحدة المتكاتفة»، ومن الطبيعي أن جلالته، يرمي من وراء الإشارة إلى «الأسرة الواحدة»، إلى ما جاء في كتاب «لسان العرب»، حيث أن «مفهوم الوطن لغة يشير إلى المنزل الذي يقيم فيه الإنسان، فهو وطنه ومحله». وكل ذلك يقود إلى غرس البذور الصالحة للمواطنة الصحيحة، المنطلقة من الولاء للبحرين، وقيمها الأصيلة، كما تفهمها المجتمعات المتطورة التي ترتقي بشعور المواطن وسلوكه، من الركون للقبيلة أو الطائفة أو المذهب الديني، إلى درجة تجعله عنصراً فاعلاً ومتفاعلاً مع المجتمع الذي ينتمي إليه، فيتقيد بقيمه الحضارية، ويلتزم بقوانينه المعاصرة، ويدافع عن مصالحه المشتركة، ويساهم في فعالياته. وطالما كانت المواطنة هي التعبير الوحيد الذي يدل على ما «يتمتع به المواطن من الحقوق، ويلتزم به من الواجبات، التي يفرضها عليه انتماؤه إلى الوطن»، فمن غير الممكن أن يقود ذلك إلى شيء آخر غير «المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية العامة (الانتخاب والترشح)، تدبير المؤسسات العمومية، المشاركة في كل ما يهم مصير الوطن».
لقد كان جلالته، في كلمته، فارساً على صهوة نبذ الفتنة، حاملاً بيده سيف التعايش، مبشراً بحلٍّ ينقلنا من خندق الأزمة الطاحنة الضيق الآسن، إلى فضاء المجتمع المستقر الرحب. وليس أمام الجميع من خيار آخر سوى التفاعل الإيجابي معه
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 3145 - الأحد 17 أبريل 2011م الموافق 14 جمادى الأولى 1432هـ