في حديث خص به برنامج «أسواق الشرق الوسط» التي تبثه (سي إن إن)، تباهى جمال مبارك، وهو نجل الرئيس المصري حسني مبارك، متحدثا عن الاقتصاد المصري، قائلا بأن «ثمار الإصلاح الاقتصادي وصلت خلال الأعوام الماضية إلى شرائح دنيا لم تكن تستفيد منها من قبل، مضيفا أن التوزيع غير العادل للثروة هو أفضل من التوزيع العادل للبؤس». واستطرد جمال في المقابلة ذاتها، مشيرا إلى التطورات الإيجابية التي عرفها الاقتصاد المصري خلال السنوات بفضل الإصلاحات التي تم إقرارها، مؤكدا على أن «الاتجاه العام التراجعي قد انتهى.» أهمية أقوال جمال، تعود إلى كونه أحد اللاعبين السياسيين الأساسيين في الساحة المصرية، ويتوقع الكثيرون أنه سيخلف والده في حكم مصر. لذا فمن الطبيعي أن تثير تصريحات جمال الممعنة في التفاؤل والتي تسودها الثقة في متانة الاقتصاد المصري، وقدرته على الصمود وسط أنواء الأزمة الاقتصادية العالمية التي تجتاح البلاد العربية، دون أن يكون هناك أي سبب منطقي يستثني مصر منها، استغراب المواطن المصري العادي، قبل أن تصل إلى مستوى المؤسسات الاستثمارية.
لا يحتاج الأمر الكثير من الحصافة أو حتى المعرفة، كي يكتشف المتابع للأمور في القاهرة، هشاشة الاقتصاد المصري، والصعوبات التي لا يزال مطالبا بتجاوزها قبل الحديث عن أية مظاهر صحية من تلك التي أشار إليها جمال في تلك المقابلة.
فهناك التقرير الصادر عن المجموعة المالية «هيرمس القابضة»، ونشرته صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، والذي يتحدث بصراحة لاتقبل الجدال عن تراجع في «معدلات نمو الاقتصاد المصري يصل إلى 4.8 في المئة بنهاية العام 2009 و 3.4 في المئة بنهاية العام 2010». ويحذر التقرير بشكل واضح من «تراجع عائدات السياحة مع انخفاض تحويلات المصريين الخارجية إلى جانب ارتفاع معدلات البطالة».
أما صحيفة الوطن السعودية، فنجدها تبث على موقعها الإلكتروني تقريرا مقتضبا تفند فيه ادعاءات العديد من المسئولين المصريين، مستعينة بالدراسة التحليلية الشاملة التي نشرها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية التي شخصت أسباب تراجع الاقتصاد المصري، وكشفت «التناقض المستمر في البيانات الرسمية للحكومة بما يشير إلى تشابك الأزمة وتعقيدها»
أما عبدالكريم حمودي، أحد مراسلي شركة «القدس للخدمات الصحافية» فيسلط الأضواء على الأزمات الخانقة التي يعاني منها الاقتصاد المصري من خلال أزمة الجنيه، فيتحدث عن تتابع «النكسات والأزمات التي تعرض لها الاقتصاد المصري، ابتداء من أزمة السيولة، ومرورا بأزمة هروب رجال الأعمال وامتناع آخرين عن تسديد ما عليهم من أموال ضخمة للمصارف المصرية، وأخيرا أزمة الجنيه وتدهور قيمته رغم وجود عوامل من المفترض أن تدعم قيمته، الأمر الذي اضطرت معه الحكومة في النهاية إلى تخفيض سعر صرفه، ومن ثم تثبيته عند قيمة معينة».
في الاتجاه ذاته ينقل موقع «مصر اليوم» حصيلة توقعات مجموعة من خبراء الاقتصاد المصريين من أمثال العميد الأسبق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية أحمد الغندور، وأستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة جودة عبدالخالق، والمدير السابق لمنتدى البحوث الاقتصادية سمير رضوان باحتمال «انهيار قطاعات الاقتصاد المصرى، خلال أعوام، بسبب تداعيات الأزمة المالية العالمية، (واصفين) تأثر قطاعات السياحة، وعائدات المصريين بالخارج والبترول وقناة السويس، بالأزمة المدمرة، (محذرين من ان) زلزال الأزمة سيصل إلى كل مكان، واعتبر ما أعلنته الحكومة من ضخ 15 مليار جنيه حلا غير كاف».
مصر ليست الوحيدة التي تعاني من الأزمة الاقتصادية الطاحنة، وهي في الوقت ذاته، ليست الدولة العربية الوحيدة التي يدفن المسئولون فيها رؤسهم في الرمال عندما يتحدثون عن الأوضاع الاقتصادية في بلدانهم، حيث نجدهم يجترون عبارات أصبحت يصعب القبول بمحتواها. نجد هؤلاء المسئولين يتباهون بصمود اقتصاديات بلدانهم، دون أن يتحرجوا من الوصول إلى مستوى تكذيب تقارير صادرة عن مؤسسات مالية موثوق بها، أو تلك الصادرة عن مراكز أبحاث لايرقى الشك إلى صدقيتها وشفافية منهجية مداخلها البحثية.
ومؤخرا كان الخليج من بين الساحات التي تحولت إلى ملعب سباق يتبارى فيه عدد من المسئولين، كل في دولته، محاولا أن يوهم شعبه، وربما نفسه في حقيقة الأمر، بأن كل شيء على ما يرام، وأن ليس هناك ما ينبغي أن تخشى عقباه. الأمر الذي سيكتشفه المواطن العربي، لكن بعد فوات الأوان، وبعد أن دفع هذا المواطن ضريبة باهضة جراء السياسة التطمينية التي دأب على الترويج لها أولئك المسئولون العرب منذ اندلاع الأزمة المالية، أن كل ما شاهده أو استمع له لا يعدو كونه تمنيات وردية في أفضل الأحوال، وأساليب تضليلية ملتوية، لا قدر الله، في أسوأ الأحوال، كان هو أحد ضحاياها.
منطق الأمور يقول، إن طبيعة الأزمة وسعة موجتها، وشدة تأثيراتها، جعلتها تتحول من ظاهرة وطنية محصورة في أسواق الولايات المتحدة الأميركية، أو إقليمية لا تتجاوز حدود الدول الغربية، إلى حالة عالمية تمتد من طوكيو إلى واشنطن، مرورا بأسواق الشرق الأوسط. وأن علامات هذا التحول أصبحت من الوضوح الذي يدحض كل ادعاءات هؤلاء المسئولين، بغض النظر عن قوة الآلة الإعلامية التي تقف وراءها.
من حق جمال مبارك وغيره من المسئولين الآخرين أن يناموا ويتمتعوا في أحلامهم الاقتصادية الوردية، لكن من حق المواطن أن يعرف أن تلك الأحلام أوهى من السراب، ولن تصمد طويلا عندما تكشف المؤسسات المالية العربية، ومن بينها المصرية والخليجية، نتائج الربع الثاني من العام 2009. حينها لن يستطيع أولئك المسئولون الاستمرار في دفن رؤوسهم في الرمال
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2452 - السبت 23 مايو 2009م الموافق 28 جمادى الأولى 1430هـ