العدد 1243 - الإثنين 30 يناير 2006م الموافق 30 ذي الحجة 1426هـ

واحميراه

لكوني لست من مواليد الحقبة الحميرية الماضية بعيدة الأغوار جداً فأنا أعترف أمامكم بأن ليس لي معرفة حقيقية بسر وجود مذياع وتلفاز إلى جانب لوحة حائط متسخة جداً معلقة على الجدار الأمامي للزريبة وضعها الجد الخامس عشر لصاحب الزريبة الحالي منذ أمد بعيد ليطلع الحمير من خلالها على جميع قراراته التعسفية وقوانينه الإجرامية ضد الحمير وخصوصاً عندما يرفس حمارٌ من الحمير سطل الطعام أو الشراب ممتنعا عن تناول الطعام لسوء معاملته وعدم رحمته للحمير أو لفعل جرم أجبرنا على القيام به هو نفسه أو أحد أحفاده ضد آخرين نضطر أحياناً إلى أن نقع فيها لكونهم جميعاً هو وأحفاده يضطرونا للقيام بأشياء وأعمال غير حميرية على الإطلاق وليست من شيمنا البته. غير انه قد جاء وهذه حقيقة لا غبار عليها في تاريخنا الحميري الذي لا أعتد به كثيراً لكثرة ما به من تزوير ولكثرة ما علق به من غبار ملوث أنه فيما مضى من الوقت يوم كانت الحروب تنشب بين البشر ولأسباب تافهة جداً، حدثت حرب ضروس جاءت نتيجتها أن دفن صاحب الزريبة ذاك نفسه في الزريبة بين الحيوانات للحفاظ على حياته ومستقبله من بطش الحروب وأهوالها وهو لذلك جلب معه حاجياته المهمة جداً وخصوصاً ما خف وزنه وغلا ثمنه فاراً بها من مكان سكناه ومقر كنوزه منها وسائل الإعلام تلك التي هي الآن وعلى حالها قد عفا عليها الزمن. انتهت تلك الحرب الضروس وجاء بعدها حروب كثيرة يسلك فيها أصحاب الزريبة السلوك نفسه يأتون للعيش في الزريبة بحاجياتهم على رداءتها في حماية الحيوانات التي يشبعونها ضرباً وقهراً» وكنا أجدادنا ونحن في الزريبة على مدى تلك الحوادث الجسام بالنسبة للبشر نسترق النظر إلى البرامج التي تبثها تلك المحطات التي يسمونها تلفزيونية ونرى مدى الحماقات التي ينخرط بها بني البشر ونضحك في أعماقنا لكوننا لا نفعل جزءا من تلك الحماقات ومع ذلك يستهزئون بنا أيما استهزاء ولكننا وللحقيقة لسنا بذلك الطهر فلنا حماقاتنا أيضاً» من تلك الحماقات التي لنا ما أظهرته وسائل الإعلام المأجورة المناهضة لحقوق الحمير أعطيكم صورة منها وأرجو أن لا تضحكوا لأننا نؤمن بأن الشاطر من يضحك أخيراً. فقط عودوا بأدراجكم إلى التاريخ لتروا بأم أعينكم وجوهر بصيرتكم من ضحك أخيراً. جاء في خبر عاجل شاهدته بأم عيني وسمعته بأذني التي لا تخطئ أن حماراً وقد قالوا عنه حمارٌ «سائب» وتلك فرية بربي كبيرة فنحن لا نحب فعل ذلك إطلاقاً ولكنه حمارٌ مطاردٌ مطرودٌ مغضوبٌ عليه كاد أن يتسبب في تحطم طائرة التي كانت تقل كثيرا من البشر» وقد تحدث أولئك البشر بأحاديث ما أنزل الله بها من سلطان عن الحمارُ المطرودُ المنكودُ منها إنه كان يسير على مدرج المطار ما دفع قبطان الطائرة إلى أن يطير فجأة إلى ارتفاع أكثر من ألف قدم دفعة واحدة حتى يتفادى الاصطدام بالحمار» ثم تبين لهم من بعد وكثيراً من يتبين لهم من بعد إن كل ما حصل جاء نتيجة خطأ بشري وما أكثر الأخطاء التي نعرفها ولكننا لا ننهق بها حفاظاً على العشرة التي بيننا وبينهم. وهذا الخطأ البشري لم يكن سببه غير معروف لهم أبداً فهم مشهورون بالتقصير والإهمال والتاريخ يشهد بذلك. ثم انظروا إلى هذه القصة الأخرى، فقد أعلنت إحدى المحطات بعد أن دفعت مرة واحدة وعلى حين غرة بعنوان كبير إلى مقدمة الشاشة: «حمار يثير معركة أهلية في قرية مصرية» وإن هذا الحمار بات من أشهر الحمير حتى انه بات أشهر من أشهر حميرنا التاريخية لكونه نسي قواعد الاتيكيت الحميرية وفعل فعلته «أمام منزل مجاور» ربما للزريبة أو لمنزل صاحب الزريبة وكأن البشر لا يفعلون فعلتهم في أماكن أكثر قرباً من منازلهم وفي أماكن لا يصح بهم فعلها فيها ولكن ماذا تقول حين تتجمع كل أنواع الظلم والقهر عليك» ولسبب فعلته تلك ثارت ثائرة النساء على الحمار وكان الأجدر بهن أن يثرن لأمور أخرى تتصل بمستقبلهن الذي لا يعرفون عنه شيئا، ولسبب ثورتهن تلك تعرض الحمارُ المسكين منهن للضرب المبرح ومن آخرين لا دخل لهم بالموضوع ولكن كما جاء في أمثالنا الحميرية إذا طاح الحمار كثرت سكاكينه» ثم إن النسوة تلك لم يكتفين بما فعلت أيديهن بل توجهن إلى صاحب الزريبة ووقفن أمام باب منزله متظاهرين مطالبين بإزالة فِعل الحمار عن الأرض وبين قيل وقال نشبت معركة كبيرة بين الرجال والنساء من الجانبين تبادلوا فيها التراشق بالأحذية. بقى أن نقول إن النساء أصررن «على إشعال معركة كبيرة»، وقد تسنى لهن ذلك كما تسنى لهن ذلك عبر تاريخهن الطويل فهن دائما كما يورد التاريخ الحميري سبب اشتعال المعارك الطاحنة، وأشعلت المعركة وسقط قتيلان وأصيب عدد لا بأس به من البشر إصابات بليغة دخل كثير منهم إلى المستشفى وكثير منهم إلى السجن إذ تم القبض عليهم. الغريب في الأمر أن الحمار بحكمته المعهودة نجا من كل ذلك. قد يسأل بعض منكم ساخراً أو متهكماً متندراً: ولكن ما سبب وراء سردي لكم هذه القصص التي ربما قرأتموها أو لربما شاهدتموها أو سمعتم بها من قبل من خلال وسائل إعلامكم؟ أقول السبب يعود في ذلك إلى حمار رشيق القوام متين البنيان كحيل العينين له أذنان تنتصبان كما تنتصب الرماح في المعارك حاد السمع و البصر معشوق الأتان الصغيرة والكبيرة الأوحد له جحفلتان ليست كما الجحافل التي عهدناها ولا التي عهدتموها يا معشر البشر ونهيقه مميز جداً ممكن التعرف عليه بين ملايين من الحمير. وفي يوم ليس كمثل بقية الأيام وقد لفت السماء حول خصرها عباءة سوداء وشاحت شمس السماء بوجهها عن وجه كل حمار يدخل الزريبة أو يخرج منها وإذا بهذا الحمار الأصحم والدماء تقطر من جسده كما تقطر السماء بالمطر وكانت الجروح على جسده واضحة وغزيرة جدا وكان رأسه مصاباً إصابة بليغة وإحدى عينيه معطوبة أيما عطب وقوائمه مكسرة نتف نتف، وحال رؤية الحمير جميعها لذلك المنظر المؤلم حقاً تقاطرت عليه من كل ناحية وصوب هذا يشمه وهذا يلمه وهذا يسنده وتلك تحاول تضميد جروحه وتكأكأوا عليه تكأكؤ النحل على الخلية. وأتضح لنا نحن الحمير المجتمعين من حوله إن عفنج من العفانج أشبعه ضرباً مبرحاً ليس لسبب مشروع أو مخالفة خطيرة بل فقط لكونه نهق نهاقاً ليس من النوع المعروف عنه والمألوف على أسماعهم فقد استبدل النهيق بالنهات. لقد كان نهاته نهاتاً مليئاً بمفردات الرفض للوضع القائم على الظلم والتعسف. وبين نحن نقوم بمحاولة أخيرة ويائسة لمعاونته على تحمل آلامه وتضميد جروحه ووقف نزيف دمه وإراحة تلابيب عقله جاء التلفاز بخبر تلقيه الضرب المبرح والتجمهر البشري الدائم الحدوث عندما يضرب حماراً من الحمير من دون أن يفعلوا شيئاً يذكر وجاء في الخبر سبب ذلك الضرب وكان فيه كثيرٌ من التلفيق والكذب والرياء. وبين جميع الحمير مشدوهة بما يبثه التلفاز من عملية إجرامية في حق الحمار المعطوبة كل أداة تعمل فيه نهق الحمار بصعوبة شديدة ودار منقلباً على ظهره رافعا قوائمه إلى الأعلى جاحظ العينين مترهل الجحفلتين خائرة جميع قوى أذنيه متغيرة جميع ألوانه تزرق في موقع وتخضر في موقع وتصفر في موقع آخر وتحمر في مواقع والزبد يتطاير كلما نهق قليلا إلى الأعلى أو يضيع على تربة الزريبة. في تلك الأثناء وكانت لحظات صعبة جداً ومريرة جداً أن تشاهد الحمير حماراً ينازع سكرات الموت من شدة الألم نهق نهقة صارخة قائلا فيها: «واحميراه.. انتفضوا انتفضوا انتفضوا». بعدها أسلم روحه وغيبه الموت. الحمير لم تفعل شيئاً ولم تفهم مفردات نهيقه الأخيرة حتى يومنا هذا





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً