العدد 1243 - الإثنين 30 يناير 2006م الموافق 30 ذي الحجة 1426هـ

الممرضات: ملائكة تطاردها الأشرار...!

«بلقيس» ممرضة مثالية، غالباً ما تفضل النوبة الثانية في عملها في أحد أجنحة الجراحة الرجالية العامة، وطالما تكثر «بلقيس» من الجلوس في غرفة المكتب بالجناح، والتي تتكلس فيها «مشرفة الجناح» في الفترة الصباحية من دون حراك، فالمشرفة تشغل نفسها بترتيب أوراق لا أهمية لها، وتوزيع الاتهامات للممرضات بأنهن «دون المستوى»، تلهف بلقيس للجلوس في غرفة ما المكتب جعل البعض يعتقد بأنها «ممرضة كسولة» أو أنها تحديداً ليست «ملاكاً»، ولعل أكثر ما تشتم به الممرضة في أي مشفى، هو قرار مريض أو طبيب، ما يخرجها من قائمة «ملائكة الرحمة»، إلى قائمة «شياطين العذاب»، ما يثير في «بلقيس» أنها فتاة كتمان وأسرار نسبياً، وأنها في الغالب شحيحة الكلام عن مغامراتها أو حكاياتها كما هي فعلاً، «بلقيس» تعتقد بأن الممرضة ­ أي ممرضة ­ لابد أن يكون الحب سيد يومها، الممرضة في الغالب ليست كالمدرسة المعاقبة بتدريس الفتيات، فكل رجال المشفى من أطباء ومرضى هم «مشروعات حب» مقبولة!

المنقذة الرسولية!

بدأت بلقيس كما بدأت كل ممرضة دراستها، وكما يبدأ كل منا مشروعه في صناعة تاريخه الجميل المقبل «وهم المستقبل» في كلية ما، بدأت زهرة الياسمين رحلتها. المهندس يعتقد بأنه سيخترع طائرة جديدة، والمدرس يلبس عباءة المنقذ الرسولي، والممرضة هي ملاك الرحمة الذي سيقدم حب الحياة للمريض، وهي من سيسهر على راحته، وهي من ستكون ساعد الطبيب في كل شاردة وواردة، فأية مهمة أكثر رقة وإنسانية من هذه المهمة، في هذه الفترة تحديداً تحس الممرضة بأنها ستبني العالم بيديها، وأنها الطبيب الحقيقي، فالأطباء أناس «فارغون» وفي الغالب أخطاؤهم أكثر من إنجازاتهم،، بلقيس متيقنة من أنها ذات يوم ستنقذ حياة مريض ما في اللحظات الأخيرة الحرجة، وأنها من ستكون الأهم من كل مهم في المشفى. تستمر بلقيس في جمع معارفها، تدرس أحياناً أشياء تنفعها وتعرف أنها ستكون من صميم عملها، وتدرس أحياناً أشياء أخرى لا تهتم بها، إلا أنها مجبرة عليها. وهي دائما ما تتخيل صورة ترسمها كل يوم مخيلتها «طالب مهووس بالرياضيات والعلوم وانكسارات الضوء، يدرس أشعار المتنبي وعليه أن يحفظها مع أنه يستسخفها،». فلعل أبيات المتنبي تساعده في حل متراجحة معقدة، أو تلهمه فكرة حديثة في الفيزياء والطيران. إلى هنا، وفتاتنا كباقي الملائكة، إلا أنها في لحظات التخرج تحديداً كانت في قمة ملائكيتها. قليل من الإجراءات الروتينية الغبية وتكون بلقيس سيدة الملائكة الأولى، تقول بلقيس: «كل ممرضة تمر بمثل هذا الشعور يوم تخرجها، اللباس الأبيض المعتاد والذي لابد من أن نضع عليه بعض اللمسات المختلفة لنتحصل على شيء من التميز، ثمة زينة تقليدية، والساعة دليل على النظام والالتزام، ولا ضرر من «بروشور» يحتوي عبارات تلخص مهنة التمريض بشيء من الملامح الربانية أو الإنسانية الكبرى» التي نخدع بها المريض ومرافقيه. ولأنه لابد لكل حلم جميل من نهاية مؤسفة، تتساوى في مقدار الحلم وتتعاكس لتكون الواقع المرير، كان لبلقيس واقعها الجديد في المشفى، لم تقتنع تلك الفتاة المرهفة الحس بأن ثمة فارقاً كبيراً بين ما نتعلمه في الجامعات والمعاهد وبين ما سنقوم به في أماكن أعمالنا. بذلك القدر من الأمل نفسه، ثمة كوابح من الإحباط. طبعاً للرجل في سلسلة الإحباطات التاريخية للمرأة حضوره الدائم، ثمة عدائية تاريخية لا تنتهي، ولعله من الأفضل أن لا تنتهي!.

الأشرار يملأون المكان!

ثمة سيسيولوجيا خاصة تحكم المشفى. الممرضة هي مساعد المريض المباشر وذراعه اليمنى، أو هي المرشد الأول للأطباء المصابين بالعمى في معرفة أسرة مرضاهم على رغم أن قائمة المرضى وأرقام أسرتهم غالباً ما توضع في مكان بارز، وهي في السياق نفسه فإن بلقيس مطالبة أن تبدي شتى فروض الطاعة والاحترام لمقام الرجل الأول في المشفى، على أن كل رجل في المشفى هم برتبة الأوائل،،. دائماً الشرير الأول، هو «الرجل الأول»، ذلك الرجل القابع خلف سماعته التي يتباهى بها على موظفي المشفى قبل مرضاه، وفي الغالب تكون هذه السماعة أداة تعريف للرجل الأول، الطبيب لها سياقها الآخر، الطبيبة حتى مع كونها «سيدة أولى» إلا أنها في الغالب تعامل «كنصف رجل أول». تتفهم «بلقيس» أن «الرجل الأول» سلطة لا تستطيع تخطيها، لكنها ببساطة لا تتحمل أن لا يكون ثمة من يتحكم بالرجل الأول أو حتى بنصف «الرجل الأول»، هي تعلم أن الحياة تسلسل وسلطات متتابعة، إلا أنها تدرك أن المشفى لا تسلسل فيه، خصوصا إن كان رفيقها في التجوال الطبي الصباحي «طبيب استشاري» فهنا لابد من الإطاعة من دون إظهار أي نوع من المناقشة أو التحليل، فالأطباء الاستشاريون يوهمون الجميع بأن ما يتفوهون به كلام مقدس، وأن تحليلاتهم للأمراض هو الحقيقة التي لا يدركها الأطباء المبتدئون. زيارة الأطباء لجناح بلقيس مملة، وتحتوي على الكثير من الأسئلة والإجابات التي لابد أن تكون واضحة ومحددة، وكل إجابة قاصرة تتبعها في الغالب نظرة تشكيك مؤلمة تفضي إلى الطعن في كفاءة «بلقيس» كممرضة. الآن، حيث تنتهي زيارة الأطباء، لدى بلقيس سلسلة طويلة من العقوبات «الوظائف». مع اليوم زميلتان، إحداهن في الشهر الخامس من حملها، وهي مشغولة بأوجاعها، وبالتفكير في اسم مولودتها المقبلة. تقول بلقيس ببساطة «فلتسميها ما تشائين... إلا بلقيس»، تقهقه زميلتها قائلة «سأسميها بلقيس»، لدى بلقيس «عقوبة» الذهاب لقسم الأشعة بالمرضى، والمرور بالمختبر وهو أجمل ما في المشفى فهناك مشروعها الكبير «علي»، كذلك عليها محادثة الصيدلية في أمر دواء يحتاجه أحد المرضى ويتلكأ الصيادلة في صرفه للمريض مدعين أن «الجرعة خاطئة»، وتسأل بلقيس نفسها، يقولون «الطبيب والصيدلي هما الخبيران الوحيدان بالدواء» فلماذا يختلفون في الجرعات،،. زميلة بلقيس الثانية هي «فاطمة»، وهي دائمة الشكوى، فخطيبها بعد ثلاثة أشهر من الكلام الجميل والحب الفواح اتضح لها انه قرر الاقتران بممرضة لتقوم بتجهيز شقة الزوجية بنفسها، فقد سمع أن رواتب الممرضات مرتفعة،،. وهو لا يعلم أن «فاطمة» كانت قد اشترت قبل الخطبة سيارة جديدة، وأنها ستضطر إلى أن تدفع أقساطها لسبع أو 8 سنوات متواصلة، ولن يتبقى من راتبها إلا ما تساعد به أهلها.

نحن نساء نمرض كل شهر!

الممرضات في الغالب «متهمات» بأنهن قليلات عمل، وكثيرات الحصول على الإجازات المرضية؟، وتعلق «بلقيس» على هذا الأمر بقولها «لا أدري لماذا لا تريد إدارة التمريض أن تتفهم أننا إناث، نمر بما تمر به كل نساء الأرض من عوامل بيولوجية تجعلنا غير قادرات على العمل، وأن هذه الظروف الصعبة ببساطة هي شهرية،،». كما أن إدارة التمريض هي مهتمة أولاً وأخيراً بخفض النفقات، ولا ضير في أن تعمل بلقيس وفاطمة في إحدى النوبات على رعاية 25 مريضاً عاجزاً عن الحركة لعشر ساعات متواصلة. ملائكة تحتاج إلى ملائكة،، هذه ببساطة حال الممرضة.

المرضى العاشقون...

المريض «أحمد» حصل على ترخيص بالخروج من المشفى بعد ان تحسنت حالته الصحية، إلا أنه يرفض الخروج متذرعاً بأنه «مازال مريضاً»، وأنه مازال في حاجة إلى العناية والرعاية، وهو دائماً ما يضرب جرس المناداة ليطلب أشياء سخيفة «أريد محارم ورقية»، «أريد أن أغير من مستوى ارتفاع السرير»، ببساطة «أطفئوا الأنوار»، وأخيرا قد تكون الشكوى أن «المريض المجاور يزعجني بشخيره» وعلى رغم أن أحمد مريض ملازم للمشفى ويجيد تعديل سريره الخاص يدوياً، فإنه ببساطة يحب أن يرى انحناءات الممرضات قبال سريره لحاجة في نفسه،،، الأشرار هنا... يملئون المكان. مريض آخر، كبير السن، ويرفض أهله تسلمه بحجة أنه «مزعج»،، كما أن دار العجزة لم تقبل أوراق استضافته حتى الآن، وعلى بلقيس أن تساعده في دخول دورة المياه كل ساعتين. وبجانبه «مريض نفسي»، سليط اللسان، هذا المريض ببساطة له هواية خاصة وهي أن يلفت انتباه «بلقيس» أنها بنت خالته. وأنه يحبها منذ أن رآها في المرة الأولى. إلا أن بلقيس لا تحتاج أن تفاضل بين المريض المجنون وبين «علي» موظف قسم المختبر، والذي هو بمثابة «الحلم الجميل» في هذا العدم المسمى «مشفى».

هوس اللون الأبيض

تحاول «بلقيس» كل يوم أن تقترح تغيير لون لباس العاملات بالتمريض من اللون الأبيض إلى أي لون آخر، إلا أنها تخشى من تعليقات مسئولة الجناح اللاذعة، بلقيس دائماً ما تلاحظ أن اللباس الأبيض لا يعني تحقيقاً فعلياً لملائكيتها، بقدر ما يتيح فرصة أفضل للموظفين والمرضى في كشف تفاصيل أجساد الممرضات والحديث عنها، وخصوصا أن بعض الممرضات يتعمدن اختيار الملابس البيضاء الشفافة والضيقة،،، ولعله التمثيل الحقيقي لملائكية الوظيفة واللباس واللون معاً،،.تتساءل بلقيس في دواخلها كل يوم لتسأل نفسها ذات السؤال. (الطبيب، سماعة الطبيب، الصيدلي، إدارة التمريض، اللون الأبيض، الراتب المخجل، رئيسة الجناح، مسئولو التمريض الذين يأتون لزيارة الجناح للمراقبة في كل ساعة، موظف الأشعة، زوج زميلتها فاطمة، علي موظف المختبر اللامبالي، المريض، وخصوصا المريض النفسي...) كلهم أشرار... فهل نحن فقط من بين كل هؤلاء الأشرار من نستحق لقب (الملائكة)،،، حسنا، إن كنا ملائكة... فنحن ملائكة تطاردها الأشرار.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً