العدد 2452 - السبت 23 مايو 2009م الموافق 28 جمادى الأولى 1430هـ

لبنان... بعد يوم من التحرير

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يحتفل لبنان هذه الأيام بالذكرى التاسعة للتحرير. فهذا اليوم الذي تصادف في العام 2000 شكل نقطة انعطاف في المسار المحلي إذ تحول إلى مناسبة للوحدة الوطنية حين أخذت الجموع الأهلية تزحف جنوبا لرؤية تلك المواقع الأثرية والمناظر الطبيعية والقرى المنثورة في الجبال والأودية بعد غياب عن المشهد دام أكثر عقدين من الزمن.

الصورة كانت جميلة في منطقها السياسي فهي أرسلت إشارات أوحت بأن لبنان خرج من «عنق الزجاجة» وباتت الحرب في الوراء ولم يعد أمام بلاد الأرز معوقات. فالزمن الصعب تلاشى وراء مشهد الصورة ما رفع من نسبة النشوة والزهو والإشباع. فالناس كانت مطمئنه للمستقبل لأن «الدولة» نجحت من جانبها بإعادة إعمار الجزء الأكبر مما دمرته الحرب و«المقاومة» حققت من جانبها فوزا على الاحتلال ما يجعله يفكر مئة مرة إذا أراد تكرار العدوان.

يوم التحرير في العام 2000 كان أعلى قمة وصلها لبنان في تاريخه حين تعانقت «الدولة» و«المقاومة» وتآلفت الطوائف على قاعدة التوازن والمناصفة ومعادلة لا غالب ولامغلوب. لم يدرك اللبنانيون في تلك اللحظات السعيدة أن وراء اليوم مرحلة نزول وانحدار وسيكون ليوم التحرير والإعمار خفايا مظلمة. لم يتوقع اللبنانيون في ذاك اليوم أن للحرب ملاحقها وارتداداتها وتداعياتها وأن السيناريو الذي اختتم على مشهد التحرير سيعاد افتتاحه على فصول وإضافات ستكون الأسوأ في تاريخه الحديث.

في ذاك اليوم وقبل تسع سنوات بدأت «إسرائيل» تتشنج داخليا وأخذ تيار حزب «الليكود» بقيادة أرييل شارون ينمو بالضد من تلك التنازلات والتراجعات التي قدمها قادة حزب العمل لمنظمة التحرير الفلسطينية ولبنان إرضاء لسياسة أميركية يديرها بيل كلينتون من واشنطن. فالحزب الإسرائيلي المتطرف في أيديولوجيته التوسعية أعرب عن رفضه لاتفاقات أوسلو التي وقعها ياسر عرفات وما أنتجته من سلطة وطنية محلية في الضفة والقطاع. كذلك وهذا الأخطر جدد رفضه للانسحاب من لبنان واتهم قيادة حزب العمل بالضعف والتفريط بأمن «إسرائيل» وتعريض حدودها الشمالية للخطر من الجنوب اللبناني.

على هذه القاعدة الأيديولوجية المتطرفة قرر شارون الدخول عنوة إلى باحة المسجد الأقصى متحديا كل الاعتراضات السياسية والعقائدية. وشكلت خطوة شارون الاستفزازية حركة انتخابية استعراضية مهدت له الطريق للفوز بالانتخابات واقتحام الكنيست وتكليفه بتشكيل حكومة تخضع لرغباته الأيديولوجية.

اعتبر شارون في بيانه السياسي أن لبنان انكشف دوليا في اعتبار أن تل أبيب نفذت بنود القرار 425 ولم تعد هناك ذريعة لمهاجمة قواته أو اختراق حدوده. كذلك اعتبر أن الاتفاقات الدولية التي وقعها عرفات لا تعطيه الحق بتأسيس دولة ذات سيادة كما أنها لا تمنع بتوسيع المستوطنات وزيادتها وبناء جدار يفصل بين القرى والمدن الفلسطينية وتلك المستعمرات المزروعة في مناطق الضفة والقطاع.

بدأ شارون يحضر الرأي العام لمشروع حرب يدفع بالعجلات إلى الوراء مستعيدا إلى الواجهة السياسية كل تلك الطروحات الأيديولوجية التي تقوض الاستقرار وتعزز نزعة الاستيلاء والاستقواء والتعالي على المحيط ودول الجوار. واستمر شارون يرفع درجة التسخين إلى أن دخل صديقه جورج بوش الابن البيت الأبيض برفقه «تيار المحافظين الجدد» الذي يحمل أجندة سياسية وقناعات أيديولوجية شديدة التطرف وتتناسب جدا مع رؤية «الليكود» في التعامل مع قضايا «الشرق الأوسط».

سبتمبر وبغداد

هذا التناغم البوشي- الشاروني كان بحاجة إلى ذريعة للإعلان عن التحالف الثنائي الأميركي- الإسرائيلي في مواجهة المحيط العربي. وجاءت الفرصة التاريخية بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 التي شكلت مناسبة لإطلاق موجات من الحروب الايديولوجية والعسكرية ضد الإسلام والعالم الإسلامي والمسلمين تحت يافطة «مكافحة الإرهاب».

أعطت هجمات سبتمبر ذريعة لحكومة شارون بمواصلة ضغطها على عرفات الذي يصنف أميركيا في لائحة الإرهاب. وتحت سقف الحرب الدولية وتقسيم العالم إلى معسكرين بدأت الولايات المتحدة هجومها الاستراتيجي في نهاية 2001 على أفغانستان. وردت الدول العربية في قمة بيروت بالإعلان عن مشروع مبادرة للسلام في العام 2002 لاحتواء الغضب الأميركي والحد من التطرف الايديولوجي الذي سيطر على اللغة الدبلوماسية للولايات المتحدة. إلا أن المبادرة العربية تعرضت للنقد والرفض ورد عليها شارون بهجوم ميداني معاكس انتهى بإعادة احتلال الضفة والقطاع ومحاصرة عرفات في مقره الرئاسي في رام الله.

أدى هذا السيناريو الأميركي- الإسرائيلي إلى تخويف المنطقة التي بدأت تكتشف وجود خطة تقويض كبيرة تتجاوز حدود الانتقام أو الثأر من هجمات سبتمبر. وتحت ضغط فائض الانتصار الأميركي السريع في أفغانستان قررت واشنطن توسيع دائرة «الفوضى» ونقلها إلى العراق.

احتلال بلاد الرافدين وتقويض الدولة وتحطيم هوية العراق وضع المنطقة في معادلة إقليمية خطيرة رفعت من حدة التوتر الطائفي- المذهبي وساهمت في تخويف الدول من مشروع يؤسس قواعد سياسية لخريطة جديدة في «الشرق الأوسط». فالخريطة التي رفعت شعارات «الديمقراطية» و«الإصلاح» و«تمكين المرأة» كانت تزعزع ميدانيا الاستقرار وتنشر الفوضى وتشجع على الهدم بذريعة «تغيير الأنظمة» أو «تغيير سياسة الأنظمة».

ساهمت المتغيرات الجيوسياسية في توتير العلاقات الأهلية في لبنان. وبدأ اللبنانيون يستشعرون المخاطر الإسرائيلية من جديد حين أخذت واشنطن تهدد بإعادة رسم خريطة «الشرق الأوسط» وتصدير «النموذج العراقي» إلى المحيط العربي والجواري. المخاوف اللبنانية أعادت إلى الذاكرة مناخات الحرب وتلك الأجواء الإقليمية التي رمت بثقلها على الساحة المفتوحة تقليديا على فضاءات المنطقة.

هكذا وبعد مرور سنة على احتلال بغداد أخذت بيروت تدخل من جديد في قنوات التوتر الإقليمي- الأهلي المعطوف على تهديدات إسرائيلية... إلى أن جاء موعد التمديد لرئيس الجمهورية إميل لحود. وشكل الصراع الداخلي على الرئاسة اللبنانية مناسبة للولايات المتحدة بالتدخل بقصد تخفيف حدة الاعتراض الفرنسي على الاحتلال الأميركي للعراق. وبسبب حاجة واشنطن لصوت باريس (جاك شيراك) اتجهت نحو التعاون معها للضغط من خلال إصدار القرار الدولي 1559 في صيف 2004. وشكلت الخطوة بداية للارتداد إلى المربع واحد فاندلعت الفوضى وبدأ مسلسل التفجيرات والاغتيالات والانقسامات والانسحابات والتظاهرات وانشطر البلد إلى كتلتين (8 و14 آذار) ودخل شارون في غيبوبة وجاء بديله وصنيعته ليوجه ضربة تقويضية انتقاما لتلك العملية الدفاعية التي أقدم عليها حزب الله داخل «الخط الأزرق» في الجنوب اللبناني.

شكل عدوان صيف 2006 صفعة قوية للوحدة الأهلية وزعزع أركان الكيان ودفع القوى السياسية إلى التواجه الداخلي ما أدى إلى تقويض تلك الصورة الجميلة التي ارتسمت معالمها الوطنية في ذاك اليوم من العام 2000. فالذكرى التاسعة التي تمر هذه الأيام تصادفت مع مواعيد مؤلمة وفضاءات مشحونة بالتوتر ومخاوف من تداعيات غير منظورة تتربص بنتائج انتخابات المجلس النيابي في 7 يونيو/ حزيران المقبل.

الآن يواجه لبنان لحظات مصيرية. شارون في غرفة العناية، وبوش تقاعد في مزرعته في تكساس... ولكن «الليكود» أخذ زمام السلطة إلى أقصى التطرف. وهذا يعني أن ساحة بلاد الأرز باتت مفتوحة على احتمالات تتجاوز حدوده الجغرافية لكون الملفات المطروحة على طاولة التفاوض تنتشر أوراقها من المحيط إلى الخليج. ولبنان الذي يحتفل بيومه المجيد لم يعد في مكان مستقر يسمح له بأن يكون في مأمن في حال ارتفعت الحرارة في المنطقة إلى درجة الغليان

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2452 - السبت 23 مايو 2009م الموافق 28 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً