منذ إصابة رئيس الوزراء الصهيوني أرييل شارون بجلطة ونزيف دماغي حاد، في الرابع من يناير/ كانون الثاني، والعالم يموج بأهله، والقنوات الفضائية لا تبرح في نقل أي مؤتمر يعقده مدير مستشفى هداسا لمعرفة ما آلت إليه صحة الجنرال الجزّار. بل إن بوش الابن صلّى من أجله، وكوندليزا رايس ألغت زيارة كان من المفترض أن تقوم بها إلى شرق آسيا، في حين أن عدداً من القادة العرب اتصل بمكتب شارون ليطمئن على صحته بعد أن تعفّن جزءٌ كبيرٌ من ذاكرتهم تجاهه، حتى غدت حسير تاريخ كئيب. والمراكز المالية العالمية تراقب هي الأخرى الوضع عن كثب، بل الأكثر من ذلك أن شارون قد أُدخِل في حملة انتخابات مارس/ آذار المقبل بقوة، وبدأت مراكز الرصد تتحدث عن فرضية حصول حزبه «كاديما» على 44 مقعداً، و«العمل» على 16 مقعداً و«الليكود» على 13 مقعداً، حتى ليتصور أحدنا أن الجنرال الراقد في غيبوبة انتقامية يُمارس دوره السياسي من على سريره الطبي بجهاز تحكّم عن بُعد. وأخيراً قال رئيس فريق جراحي الأعصاب الذي أشرف على العمليات التي خضع لها شارون فيليكس أومانسكي أن شارون يتجاوب بشكل أفضل عندما نقوم بقرصه أو عندما نضغط على أطراف أصابعه، كما أننا نجعله يستمع طوال النهار إلى موسيقى موتسارت، وبالتالي فإن كل شيء يبدو مُسَيَّراً في تل أبيب بإتقان. وهو سيناريو يُذكّرنا بالأجواء التي مرّت على الأمة العربية قبل عام إبان مرض الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الأخير، ومن ثم استشهاده في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2004، على رغم الفروق الجليّة بين الحادثين. ففي مرض عرفات كانت الأجواء مشحونة بزخّات مأتمية من الإحباط والتثبيط والإنهزامية والتستر واللامبالاة، وسط إعلام صهيوني تشويهي مُركّز على تاريخ الرجل. الزعيم الفتحاوي الذي دفِن من دون أدنى مُطالبات عائلية أو عربية أو إسلامية لمعرفة ما حلّ به مات مقتولاً، والدلائل كلها تُشير إلى أن الكيان الصهيوني متورط بطريقة ما في عملية الاغتيال تلك، خصوصاً أن العلامات التي ظهرت على وجه الرئيس في الأسبوعين الأخيرين من حياته تتطابق مع العلامات التي ظهرت على وجه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل عندما تعرّض لمحاولة اغتيال في العام 1997 بالعاصمة الأردنية عمّان، كما أكّد ذلك طبيب عرفات الخاص أشرف الكُردي. إن تمييع الحوادث والوقائع التي رافقت مرض واستشهاد الرئيس عرفات تُدلّل بقوة على أن العملية برمّتها يكتنفها سرٌ غامض، ففي أوّل المرض قِيل بأنه مصاب بانفلونزا حادة، ثم خُمِّنَ بأنه مُصابٌ بسرطان الدم (اللوكيميا) بعدها قِيل (وعلى استحياء) أنه مُصابٌ بنوع نادر من التسمّم، بعدها بيّن التقرير الطبي للرئيس أنه توفي بفعل إصابته بثلاثة أنواع خطيرة من المرض، الأول حدوث انهيار كامل في الدورة الدموية، والثاني هو حدوث تشمّع أو تليّف حاد في الكبد، والثالث إصابته بنزيف دموي حاد، إلاّ أن مُسبّبات تلك الأمراض مُجتمعة لم يُعلن عنها، بل ولم يُشَر إليها لا من قريب ولا من بعيد. وهو أمر يجب أن تُحاسَب عليه فرنسا التي احتضنت عرفات وهو حيٌ يُرزق، وسلّمته ميّتاً مع تقرير سياسي وليس طبياً، فُهِمَ منه أن الذين كتبوه أرادوا (وبفضل أوامر عُليا) أن يبقى بين الآجام حتى يأذن الكبار في أمره. وإذا ما استحضرنا تصريحات بعض المسئولين في جهاز الأمن الصهيوني بشأن نيتهم التخلص من عرفات قبل نهاية العام 2004، فإن القضية تبدو شبه مُكتملة وجاهزة لأن يُجرى عليها تحقيق جنائي. ثم إننا نتساءل: كيف قَبِلَ محمود عباس باعتباره نائباً لعرفات (آنذاك) أن يتسلّم جثّة الرئيس من دون تقرير طبي واضح وشفاف، ولماذا لم يُطالِب هو أو سهى عرفات بلجنة تحقيق دولية في القضية على غرار ما فعل اللبنانيون بعد اغتيال رفيق الحريري، أم أنهم ملّوا من وجوده كما ملّ الإسرائيليون قبلهم؟ وكيف يُمكن أن يقتل شخص بمكانة عرفات ولا يوجد من يُطالب بدمه، أو حتى إنصافه طبياً؟ عرفات الذي أدار المعركة من دمشق والقاهرة والأردن ولبنان وتونس ثم من رام الله، وخاض معركة الكرامة وعمليات الاغتيال ومعارك الحرب الأهلية اللبنانية وأنزل 40 ألف قطعة سلاح إلى الضفة الغربية وغزة بعد أوسلو، يتم إيداعه التاريخ وكأنه لوحة فنية لدافنشي أو لجون غيروم. وكما قال الكاتب فهمي هويدي: كيف للعرب أن يقيموا الأبحاث والدراسات لمعرفة ما إذا كان الفرعون المصري مات مسموماً أم لا ولا يُجرون تحقيقاً جدياً للتثبت من تسميم الرئيس عرفات؟ إنها حقيقة مُفارقة عجيبة تستحق التوقف عندها، وباعتقادي أن الكثيرين من القادة العرب كانوا مُحرَجِين من وجود الرئيس عرفات حياً، فهو أولاً الزعيم الوحيد الذي مَزّق احترامه للمال والقصور والترفه، وقَبِلَ العيش في مقر المقاطعة بين طاولة اجتماعات ذاوية ومصابيح تُضاء له بالزيت، وبعض من الأكل المُعَلّب، ثانياً فإن الرئيس عرفات تبنى القضية الفلسطينية وتحمّل وحده متاعبها، وصار نداً للصهاينة صدراً بصدر، يعيش جاراً مُزاحِماً لهم بالمناكب، يُقاتلهم حيناً ويُسالمهم حيناً آخر، وهو ما أراحَ كثيراً القادة العرب وجعلهم أكثر تفرّغاً لمشاغلهم الأخرى، إلاّ أنهم في الوقت نفسه لم يتخلّصوا من أزمة الضمير المُرهِقة، ومن حرارة اللعاب الداكن الذي طَمَرَ أشداقهم بفعل الصمت الأبدي، لذلك فإنهم الآن أكثر راحة من أي وقت مضى، لكن الأكيد أن المزاليج التي ثبتوها لقمع هذه الشخصية المترعة نضالاً ستصدأ وستنكسر وعندها سيبين كل شيء. * كاتب بحر
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1242 - الأحد 29 يناير 2006م الموافق 29 ذي الحجة 1426هـ