حتى الآن لاتزال تداعيات فوز «حماس» بالانتخابات التشريعية الفلسطينية لم تتوقف. فالكل تقريباً أعطى رأيه في المسألة وتراوحت الأفكار بين متخوف من النتائج وبين مندهش من الأسباب التي دفعت الناس إلى هذا الخيار على رغم علمهم المسبق بالصعوبات السياسية التي ستواجه السلطة مستقبلاً. المتخوفون من النتائج كثر. فهناك مواقف أعلنت عنها الإدارة الأميركية وكلها تصب في دائرة الابتزاز المالي والتهويل السياسي. ولم تكن مواقف دول الاتحاد الأوروبي بعيدة عن تلك التصريحات التي صدرت عن واشنطن. فدول الاتحاد عبرت عن المخاوف نفسها وكأنها كانت تنتظر هذه الذريعة للإعلان عن انسحابها من المشهد. كذلك اتجهت دولة الاحتلال نحو صوغ مواقف مسبقة تهدد الشعب الفلسطيني وتتوعده بالمزيد من الحصار عقاباً له على اختياراته السياسية. المندهشون من الأسباب كثر أيضاً. وحتى الآن لاتزال التحليلات والتفسيرات تصدر تباعاً. فهناك من يتهم السلطة ويحملها مسئولية ما حصل. وهناك من يتهم «فتح» بالتقصير ويعتبر أن سلوكها لم يكن على سوية الحدث. وهناك من يتهم الحكومة بالعجز والفساد وتبذير المال العام والرشوة والتقصير في تلبية حاجات الناس، الأمر الذي انعكس سلباً على اتجاهات الرأي العام. قراءات كثيرة يمكن إضافتها لتلوين صورة الحدث وإظهاره على حقيقته. إلا أن هناك وجهات نظر أخرى يجب أخذها في الاعتبار حتى تستكمل مختلف زوايا المشهد العام. وأهم الرؤى هي تلك التي تنظر إلى ثقافة الناس بشيء من الاحترام. المسألة الثقافية يجب ألا تغيب عن المشهد لأنها تشكل ضمناً آليات سياسية تتراجع أحياناً وتتقدم في أحيان أخرى وهي في مجموعها تتصل بمفاهيم العدالة والحق والحرية ورفض التفرقة العنصرية. الشعب الفلسطيني منذ قرابة قرن هو ضحية انعدام العدالة الدولية واغتصاب حقوقه وانتزاع حريته وممارسة التمييز العنصري ضده سواء على مستوى مصادرة أراضيه واقتلاعه ثم منعه من حق العودة. منذ قرن يعاني الشعب الفلسطيني من ظلم لم يشهده العالم في تاريخه المعاصر. وهذا الظلم المتواصل لاحق أهالي فلسطين منذ الانتداب البريطاني الذي فتح الباب للهجرة اليهودية وشرع قيام مستوطنات وأقدم على رعاية تكوين «دولة» تحت مظلة وعد بلفور. وتحت سلطة الانتداب تأسست منظمات صهيونية ترفع شعارات تطالب بطرد الشعب من أرضه وتمزيق هويته العربية المسلمة ومصادرة ثقافته وتراثه ورميه خارج الحدود في مجمعات أو مخيمات. وبعد النكبة وخروج الانتداب تواصلت تلك السياسة الطاردة للشعب الفلسطيني. كلمة فلسطين كانت ممنوعة من التداول في القاموس الصهيوني. والفلسطيني تعني سياسياً «الإرهابي». هذا النوع من التفكير الصهيوني الذي تأسس على الشطب والطرد واللعب على الذاكرة والمراهنة على الوقت لقلب الحقائق وتزوير التاريخ وصل منذ ستينات القرن الماضي إلى حده الأقصى. وبدأ الشعب الفلسطيني منذ تلك السنوات يرسم صورته على خريطة «الشرق الأوسط». وأخذ يستعيد الذاكرة انطلاقاً من مفاهيم العدالة والحق والحرية ورفض التبعية والكفاح ضد التفرقة العنصرية. كل هذا أنتج في النهاية صورة ثقافية مضادة لتلك المشروعات الاستعمارية الاستيطانية التي اعتمدت سياسات الظلم والكذب وتزوير التاريخ وتعديل خريطة الجغرافيا. و«فتح» في هذا المعنى كانت بداية تلك العودة. و«حماس» في النهاية ليست خارج ذاك السياق التاريخي والنسق الثقافي الذي أعاد ربط الماضي بالحاضر وفلسطين بالمحيط والشعب بالأمة. المسألة الثقافية لعبت دورها في إعادة رسم الهوية الفلسطينية والدفاع عنها وتثبيتها في الذاكرة الشعبية. و«حماس» في هذا الإطار هي جزء من صورة ثقافية بدأت ترتسم سياسياً في مساحة زمنية بلغ فيها الظلم أعلى درجاته ووصل التمييز العنصري الأميركي الأوروبي حدوده القصوى في انحيازه للعدوان الإسرائيلي. التصويت الفلسطيني هورد على الظلم والعدوان والتفرقة العنصرية. وفتح ليست معنية بهذه الرسالة. فالرسالة هي جواب قصير على سياسات ممتدة منذ قرن... وعنوانها المختصر: ها قد عدنا.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1241 - السبت 28 يناير 2006م الموافق 28 ذي الحجة 1426هـ