يوم الجمعة الماضي توحدت الأصوات السياسية في برلين ضد تهديد الرئيس الفرنسي جاك شيراك باستخدام الأسلحة النووية في هذه الحال حتى ضد إيران التي يتهمها الغرب بالسعي للحصول على القنبلة النووية. وطالبت جميع الأحزاب الألمانية المستشارة الجديدة أنجيلا ميركل كي تتصل هاتفيا بالرئيس الفرنسي وتطلب منه التراجع عن موقفه وعلى الأقل عدم تكرار هذا النوع من التهديد الذي وفقا لآراء الكثير من المعلقين هنا، نتيجته سلبية تماماً، من جهة يشجع إيران على امتلاك الأسلحة النووية ومن جهة أخرى يعد خروج فرنسا عن التزامها مع شركائها الأوروبيين في عدم استخدام أسلحة الدمار الشامل وحصرها ومنع انتشارها. كذلك يضر بالمفاوضات التي تجريها بريطانيا وفرنسا وألمانيا نيابة عن الاتحاد الأوروبي مع إيران.هذا الأسبوع سيتمحور لقاء المستشارة ميركل مع الرئيس الفرنسي في قصر فرساي قرب باريس على هذا الموضوع. احتدام الخلاف بين الغرب وإيران والذي فيه «إسرائيل» طرف، إذ تدور حرب كلامية بين المسئولين في طهران وتل أبيب، تضع المستشارة الألمانية التي تتعلم فنون السياسة الخارجية أمام تحد صعب. إذ للتو وعدت ناخبيها بأن تهتم بالمشكلات الداخلية وخصوصاً مكافحة أزمة البطالة وبدلا من أن تكون جولتها الخارجية التي حملتها إلى واشنطن وموسكو وقبلها إلى بروكسل عبارة عن زيارات مجاملة إلا أنه في ضوء التطورات الجديدة وخصوصاً الخلاف النووي مع إيران يضع أنجيلا ميركل أمام مواجهة حامية. وكتبت مجلة(دير شبيجل) في عددها هذا الأسبوع «تحبس إيران أنفاس العالم وأنفاس المستشارة ميركل أيضا» وأضافت «تهديدات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد ضد «إسرائيل» وإصرار إيران على امتلاك برنامج نووي يدفع ميركل إلى التحرك ويتعين عليها أن توضح موقفها». في الأيام القليلة الماضية أجرت اتصالات هاتفية مكثفة مع الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش والأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان وكذلك مع وزير الخارجي في حكومتها فرانك فالتر شتاينماير الذي يواجه ضغط في الداخل بسبب دوره مع الحكومة السابقة في فضيحة تجسس المخابرات الألمانية في العراق لصالح القوات العسكرية الأميركية. مع تسلم ميركل منصبها لم تعد إيران من وجهة نظر الغرب مجرد دولة مثيرة للقلق بسبب مواقفها المناهضة له وخصوصاً الولايات المتحدة، بل أصبحت مع بداية العام الجديد تشكل خطرا استراتيجيا على الغرب بسبب إصرارها على المضي ببرنامجها النووي. يقول الغرب إن إيران تخطط إلى الانتماء للأسرة النووية الدولية والتي من بينها «إسرائيل» التي تمتنع حتى اليوم عن التوقيع على المعاهدة الدولية للحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، إضافة إلى جاراتها روسيا وباكستان والهند. واتهم الغرب إيران بأنها تجاهلت النداءات الدولية وعاودت في مطلع يناير/كانون ثاني الجاري تخصيب اليورانيوم ورفضت تهديدات الغرب وقالت في رسالة واضحة «أنتم بحاجة إلينا أكثر من حاجتنا لكم». يذكر أن إيران تملك ثالث أكبر احتياطي من النفط العالمي وثاني أكبر دولة في العالم منتجة للغاز. في ظل هذه الأجواء الساخنة التي تشبه زمن الحرب الباردة بين الشرق والغرب، ليست المستشارة ميركل وحدها منهمكة منذ وقت بقراءة واستطلاع السيناريو المرعب والخوف من وقوع مواجهة مع إيران. العالم الغربي كله بصدد البحث عن موقف مشترك ويبدو أن ميركل تحسست كامرأة الخطر المداهم وأناب عنها وزير الخارجية شتاينماير بالقول: «نريد العمل على منع إيران من التحول إلى عامل يهدد الأمن في منطقة الشرق الأوسط». السؤال الكبير الذي طرحه الغرب: هل مازال بالوسع إقناع إيران بالتراجع عن خططها النووية؟ ثم كم هو قوي الضغط الذي يمكن أن يمارسه المجتمع الإيراني على حكومته؟ وهل بوسع التهديدات تحقيق الهدف المنشود أم تكون نتيجتها عكسية وخطرة في الوقت نفسه؟ ثم كيف بالإمكان توحيد موقف الغرب بسبب اختلاف طباع الرئيس الأميركي بوش ونظيره الفرنسي شيراك وكذلك القيادتين السياسيتين في موسكو وبكين؟ بالأمس القريب كان اختصاص ميركل حين كانت زعيمة للمعارضة، السياسة الداخلية والآن تجد نفسها مضطرة لإثبات قدرتها على تحمل المسئولية أمام العالم واتباع الدقة المتناهية في التعامل مع النزاع النووي القائم مع إيران. بالنسبة لميركل فإن الرئيس الأميركي لاعب مهم لكنه ليس اللاعب المهم الوحيد. في المواجهة السياسية أمام إيران ينبغي حسبما ترى ميركل، إشراك القيادتين الروسية والصينية. ليس كون روسيا والصين من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي فحسب إذ بمقدورهما استخدام الفيتو ضد أي قرار يدعو لاستخدام القوة العسكرية ضد إيران، بل باستطاعتهما مساعدة الأوروبيين وتدعيم موقف الاتحاد الأوروبي الذي مازال يأمل التوصل لحل دبلوماسي مع طهران لطي الأزمة. وكان عنان هو الذي نبه المستشارة ميركل إلى أن عدم موافقة روسيا والصين على قرار دولي يصعد الضغط الدولي على إيران، وفشل الاتفاق على قرار داخل مجلس الأمن الدولي سيشجع إيران على المضي في خططها النووية. لهذا السبب لا ترى ميركل ضرورة في استخدام لغة التهديدات ولم تصدق أذنها كغيرها من السياسيين الألمان حين سمعت تهديدات الرئيس الفرنسي باستخدام السلاح النووي لدفع إيران عن خططها وطلبت تزويدها بنسخة لنص خطاب الرئيس الفرنسي للتأكد من أن هذا التهديد الصارخ صدر عنه فعلا ولم تخترعه وسائل الإعلام. المؤكد أن الرئيس الفرنسي لم يناقش موقفه الجديد مع المستشارة الألمانية لاسيما وأن فرنسا وألمانيا يبحثان معا مختلف القضايا الدولية وهذا ما كان يفعله شيراك مع المستشار السابق غيرهارد شرودر. ترى ميركل تصريحات شيراك غير مشجعة ومازالت تعتقد بوجود فرصة للدبلوماسية لكن هذه المرة بإشراك روسيا والصين في المفاوضات الدائرة مع إيران. خلال زيارتها لموسكو عرضت على الرئيس فلاديمير بوتين تأييد قرار يوافق عليه مجلس الأمن الدولي يحذر إيران من تجاوز الخط الأحمر. وعلى النقيض من بوش ورئيس الوزراء البريطاني طوني بلير لا تعتقد المستشارة الألمانية أن الوضع يتطلب التعجل بل هناك الوقت الكافي للتوصل إلى الهدف المنشود وبأي حال فإن التأني في العمل الدبلوماسي يبقى أفضل وأقل خطورة من تبادل التهديدات. الخطوة الآتية التي ترمي إليها ميركل هي إقناع مجلس الحكام التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا بالاتفاق على نقل النزاع النووي مع إيران إلى مجلس الأمن الدولي. انها الخطوة التي سترضي الرئيس بوش الذي نفذ صبره. كما أن الرئيس الروسي بدوره بات يشعر بالقلق من أن تصبح الجارة إيران قوة نووية. لكنه يريد في الوقت نفسه مواصلة عقد صفقات اقتصادية كبيرة مع إيران بما في ذلك إكمال بناء المفاعل الذري في بوشهر وتزويدها بصواريخ مضادة للطائرات. في عام 2005 بلغت قيمة المبادلات التجارية بين البلدين 6,1 مليارات يورو. طلب بوتين من ميركل أن تأخذ الرئيس الإيراني على محمل الجد وردت المستشارة أن ألمانيا ذات يوم كان فيها حاكم لم يأخذه أحد في العالم على محمل الجد وكان اسمه أدولف هتلر، إذ تحالف بداية مع الروس ثم غزا بلدهم ثم تابعت ميركل سائلة الرئيس الروسي إذا لديه تصور غير اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي لكنها لم تحصل منه على جواب. يخشى بوتين في حال نقل النزاع لمجلس الأمن الدولي، أن تلغي إيران انتسابها للمعاهدة الدولية للحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل.كما يثير قلقه زيادة عدد حرس الثورة الإسلامية في إيران الذين يتدفقون على البلدان المجاورة التي كانت تنتمي سابقا للاتحاد الروسي. بهذا يكون الوضع الدولي بلغ مرحلة الخطر. استفسرت ميركل في موسكو أيضا عن مبادرة بوتين التي عرضها على إيران في نوفمبر/تشرين ثاني الماضي بشأن إنشاء مشروع مشترك لتخصيب اليورانيوم وهكذا يصبح الروس عبارة عن ضمان لهذا البرنامج وعامل يعتمد عليه الغرب في رعاية الخطط النووية الإيرانية وعدم استخدامها إلا لأغراض سلمية. رفضت إيران هذه المبادرة لأنها تنص على استخراج اليورانيوم فقط داخل روسيا. لكن بوتين قال إن وزير الخارجية الإيراني أكد له أخيراً أن المبادرة ما زالت موجودة على الطاولة. بالنسبة لبوتين تلعب إيران لعبة سياسية مزدوجة. حين حصل الروس على الشعور أن إيران رفضت مشروع بوتين أبلغ نائب رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني المفاوضين الأوروبيين أن بلاده مستعدة لمفاوضات جديدة. خلال زيارته للقاهرة قبل أيام حصل وزير الخارجية الألماني شتاينماير على رسالة عبر وسطاء مصريين أفادت أن وزير الخارجية الإيراني مستعد لمفاوضات جديدة بشأن المبادرة الروسية وطلب إشراك الصين في المفاوضات. تعقيبا على ذلك بدأت برلين تفكر بكيفية تطوير المبادرة الروسية لضمان نجاحها وبدأ وضع سيناريوهات مختلفة من قبل المستشارين في وزارة الخارجية الألمانية ومقر المستشارية وأحدها يدعو إلى تخلي إيران مؤقتا عن تخصيب اليورانيوم مقابل السماح لها باستخدام كمية صغيرة للأبحاث العلمية. هكذا تحمي إيران نفسها من خسارة ماء الوجه ويقبل الغرب حصولها على كمية من اليورانيوم لا تشكل تهديدا للأمن العالمي. وترى ميركل أن دور الرئيس الروسي مهم جداً لأنه الوحيد الذي يستطيع التأثير على القيادة في طهران وهو ليس صديقا لإيران لكنه ليس خصما لها مثل بوش وهو شريك تجاري. كما تعتقد المستشارة الألمانية أن الترويكا الأوروبية خصوصاً بعد تصريحات الرئيس الفرنسي لن تفلح أطرافه بإقناع إيران بالتراجع عن خططها النووية لذلك يتطلب الوضع إشراك روسيا في المفاوضات. الآن تحاول أنجيلا ميركل إقناع الرئيس الأميركي ليوافق على الخطوة القادمة والتمهل قبل مواصلة لغة التهديدات بحيث تحصل الدبلوماسية الأوروبية بمشاركة روسيا على فرصة. وخصوصاً أن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران أثبتت عدم جدواها. يوم الاثنين الماضي حصل اجتماع غير رسمي بمقر وزارة الخارجية في لندن حضره رؤساء الأقسام السياسية في وزارات خارجية الدول الدائمة العضوية في مجل
العدد 1239 - الخميس 26 يناير 2006م الموافق 26 ذي الحجة 1426هـ