رأى المرجع الديني السيّدمحمدحسين فضل الله، أن النظام الطائفي في لبنان وفرّ للمسئولين مظلة من الحماية الدائمة كي يتلاعبوا بمصير البلد، وقال «إن المشكلة تكمن في الكف عن ملاحقة مقترفي الذنوب السياسية الكبرى، الذين يغرقون البلد في الكثير من المشكلات والمآزق»، مشيراً إلى «أن الطامة الكبرى في الانزلاق بالخطاب السياسي إلى أدنى المستويات التي تسقط معها الثوابت العليا للأمة والوطن». جاء ذلك رداً على سؤال عن خطاب الفتنة في ندوته الأسبوعية، وفيما يلي التفصيل. لعلّ من أبرز الشروط التي لابد أن تتوافر في الخطاب الإسلامي الاعتماد على العلم والموضوعية حتى يصل إلى النتائج المأمولة بعد استناده إلى المنطق العلمي الذي يجد أذناً صاغية لدى المستمع أو المتلقّي، وحتى يركّز الأرضية الصالحة لخطابه في صعيد الواقع، من خلال الحجة التي لا يملك الآخرون إلاّ أن يحترموها حتى وإن جادلوا صاحب الفكرة في فكرته، أو حاولوا قطع الطريق عليه بهدف منعه من النفاذ إلى عقول الجماهير ونفوسهم. وقد علّمنا الله تعالى ألا ندخل في محاججة مع الناس إلا على أساس العلم والحجة، وأن ينطلق الحوار من خلال معرفتنا للقضية، لأن الجهل ينبغي أن يكون دافعاً للسكوت أو للسؤال، وليس منطلقاً للجدال والمماحكة، قال تعالى: «ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم» (آل عمران: 66). أما الذين ينطلقون في الحوار على أساس السجال بعيداً عن مفردات الحقيقة، فإنهم يشقّون على أنفسهم ويعطّلون حركة المجتمع، وقد يربكون الأمة والمجتمع في سجالاتهم إذا سلكوا طرق الاتهام أو اعتمدوا أساليب التجريح والشتم والتضليل التي تقود إلى الفوضى، أو تفضي إلى الفتنة التي لا تصيبهم فحسب، بل تطاول شظاياها مواقع أخرى لا علاقة لها بمطلقي حملات التشهير أو الشتم، وقد تجتذب حال الفلتان أقصى المواقع في لعبة الفوضى المدمرة. ومن هنا حضّ الإسلام على العمل بضوابط الخطاب، وعدم إطلاق اللّسان على عواهنه... لأن الحوار ينبغي أن يأخذ مسألة الاختصاص في الاعتبار، ودخول من لا يملك ثقافة الحوار في ساحة الحوار تحوّل المسألة إلى حوار طرشان. ولكن في المقابل لم يمنع الإسلام من لا يملك هذه الثقافة من المشاركة انطلاقاً من السؤال الذي يقود بدوره إلى المعرفة، لأن السؤال بابٌ أساسي من أبواب المعرفة قال تعالى: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» (النخيل: 43). في موازاة ذلك تترتب على أهل العلم جملة مسئوليات، أبرزها ألاّ يحتكروا العلم لأنفسهم ويمنعوا المحتاجين إليه من تحصيله، أو يكون علمهم منطلقاً للتكبّر أو الاستخفاف بالناس، أو يعتبروا المواقع التي وصلوا إليها تخولهم أن يتصرفوا في المسائل الحيوية على هواهم، أو يطلقوا الخطاب ليس على أساس دراسة ما يحتاجه المجتمع والأمة من كلمات ومواقف. وعلى هذا الأساس، كنا نقول لمن هم في مواقع المسئولية السياسية، إن الناس ليسوا جزءاً من ميراثكم السياسي تستطيعون أن تحركوه كما تشاؤون، وأن تضحوا به ساعة تريدون ذلك، وكنا نقول إلى الناس في المقابل إن عليكم ألا تكتفوا بوضع الورقة في الصندوق في أثناء الانتخابات، بل أن تلاحقوا وتحاسبوا كل هؤلاء الذين دفعت بهم أوراقكم إلى الندوة البرلمانية أو الذين انطلقوا إلى مواقع أخرى لتسألوهم عن وعودهم وعما حقّقوه في النقاط التي عرضوها في برنامجهم الانتخابي وعما فشلوا في تحقيقه، ليشعر من هم في مواقع المسئولية بأن عليهم رقيباً وحسيباً من الشعب في حركاتهم وخطاباتهم وكلماتهم. إننا نعتقد أن واحدة من المسئوليات الأساسية التي تقع على عاتق المسئول الذي يتصدى للمسئولية السياسية في المواقع التشريعية أو التنفيذية أو في حركة الزعامات هنا وهناك وما أكثرها في هذا الشرق أن يكون خطابه وحدوياً وينزع نحو المحبة في اجتذاب الناس، لا أن يكون خطاباً تنفيرياً يتحرك في خطوط الفتنة وإشعال الحرائق وخلق التوترات اليومية للناس، بدلاً من أن ينطلق ليبحث في مشكلاتهم الأساسية ويعمل على معالجتها بالتي هي أحسن. والمشكلة تكمن في أن الناس كفوا عن ملاحقة مقترفي الذنوب السياسية الكبرى، وأن النظام الطائفي في لبنان وفّر إلى المسئولين هنا وهناك مظلة من الحماية الدائمة التي تتيح لهم أن يتلاعبوا بمصير البلد كله، حتى إذا انطلقت الأصوات التي تعترض عليهم أو تدعو إلى محاسبتهم انطلقت التهديدات والصرخات من هنا وهناك: إنكم بذلك تسيئون إلى شرف الطائفة وإلى كرامة المذهب، إذ تحولت طوائفنا إلى حصون تحمي المسيئين وأصبحت مذاهبنا قلاعاً تحمي الفاشلين وأصبح الوطن أوطاناً وكفّ الناس عن المساءلة وربما تعبّدوا لهذا المسئول أو ذك وتركوا عبادة الله الواحد القهار. ثمة مسئولية كبرى تقع على عاتق الشباب اللبناني بكل أطيافه في أن ينطلق بحركة ضغط مضادة تمنع هذا التطييف للقضايا وتمنع من هم في مواقع المسئولية السياسية من إغراق البلد في مزيد من المشكلات والمازق من خلال الضغط لمنع الامتداد بالخطاب الفئوي والطائفي الذي يحاول أن يزرع الفتنة بين اللبنانيين من خلال محاولته احتكار الطائفة هنا والمذهب هناك لمصلحة هذا الرمز أو ذاك المسئول على حساب قضايا اللبنانيين العامة وأوضاعهم المتفاقمة، ليس على الصعيد السياسي في التوترات السياسية المتصاعدة فحسب، بل على الصعيد الاقتصادي وغيره أيضاً. إن الخطورة في التشنج الذي يحرص البعض على إبقائه حياً في الساحة على حساب الوطن وقضايا الأمة، أنه بدأ يأكل البقية الباقية من الاستقرار الاقتصادي أو السياسي ليضع البلد على حافة الهاوية من دون أن يحسب من يحركه إلا حساباته الذاتية، ولعل الطامة الكبرى تتمثل في هذا الانزلاق بالخطاب السياسي إلى أدنى المستويات التي تسقط معها الثوابت العليا للأمة من دون مراعاة قضاياها، بل لأن من يطلق الخطابات يعتقد بأن هواجسه تبيح له ذلك، أو أن هناك من هم وراء البحار يعدون بالمنّ والسلوى كلما تأجج الوضع أكثر. إننا ندعو شباب لبنان إلى أن يتحركوا من خلال مسئولياتهم حتى لا يكونوا الصدى للكلمات الهابطة والمواقف السياسية غير المسئولة، بل ليكون لهم الدور الأساسي في إعطاء الساحة توازناً جديداً وفي إرشاد السياسيين وتخفيف غلوائهم من خلال النقد البنّاء والمسئول قبل أن يسقط البلد ضحية لخطاب الارتجال ولعشوائية المواقف.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1239 - الخميس 26 يناير 2006م الموافق 26 ذي الحجة 1426هـ