تميز العام 2005 بكثرة الحديث عن الإصلاح والتحول الديمقراطي على امتداد الوطن العربي. بل ان اكثر من نظام عربي طرح مشروعه للإصلاح، وعقد الكثير من المؤتمرات والندوات، كثير منها برعاية رسمية لمناقشة هذه المشروعات، بل ان بعض البلدان شهدت انتخابات تختلف نوعياً عن سابقتها، كما هو الحال في: مصر، العراق، لبنان وفلسطين. لقد شهد العام 2005 إصلاحات اقتصادية عرفت بالتكيف الهيكلي، ومن المفترض ان تجعل هذه الإصلاحات الاقتصادات العربية أكثر كفاءة وحيوية ونمواً، وتخلق المزيد من فرص العمل، وتفتح الأبواب للمزيد من رواد الأعمال من الشباب والنساء، وبالتالي تنعكس ايجابياً على مستوى معيشة المواطن وترفع من مستوى الدخل للفرد... ولكن النتائج متباينة من بلد الى آخر. ومقابل هذه الايجابيات فان هناك سلبيات مؤذية لغالبية المواطنين إذا لم تتخذ إجراءات لمواجهتها أو الحد منها، وما نلاحظه هو ان تخلي الدولة عن مسئوليتها في تأمين جوانب من احتياجات المواطنين مثل الخدمات الصحية والتعليم والعمل، قد وضع مزيداً من الأعباء على كاهل المواطن. كما ان فتح الابواب أمام تدفق السلع والخدمات من الدولة المتقدمة، وإلغاء نظام الكوتا الممنوح للدول النامية من قبل الدول المتطورة، قد أدى إلى تراجع بعض الصناعات مثل صناعة النسيج في مصر والمغرب والبحرين، وتراجع الانتاج الزراعي وخصوصاً المحاصيل والانتاج الحيواني، مع تزايد الاعتماد على الواردات الزراعية والحيوانية من الدول المتطورة. وشهدت عملات بعض الدول العربية مثل المغرب وتونس ومصر وسورية تراجعاً أمام العملات الغربية، ما انعكس سلباً على مستوى معيشة المواطن العادي. تتفاوت طبعاً جدية الإصلاحات الاقتصادية خصوصاً فيما يتعلق بمكافحة الفساد والاحتكار واستغلال النفوذ، وخصوصاً النفوذ داخل جهاز الدولة. ويمكن القول أن بلداناً ماضية بصدق في طريق الإصلاح الشامل وبمشاركة المجتمع المدني حققت نجاحات في هذا الصدد، بينما لا يلاحظ ذلك في معظم الدول العربية. أما الجانب الايجابي فيتمثل في علاقات أطراف العمل. فقد شهد 2005 تطوراً ايجابياً على صعيد النقابات، إذ شهد العام الإقرار بمبدأ تشكيل النقابات في السعودية والامارات وتشكيل لجان نقابية في عمان والسماح بتشكيل نقابات في القطاع الحكومي في البحرين. كما تدرس دول المجلس التعاون مبدأ إصدار قوانين تنظم حقوق وواجبات العمالة الوافدة والتي لا يعترف بها كعمالة مهاجرة وإنما عابرة. وهكذا شكلت السعودية مثلا جهازاً في وزارة العمل لتلقي شكاوى العمالة الأجنبية ضد أرباب العمل من السعوديين.
مشروع الشرق الأوسط الكبير
شهد العام 2005 انطلاقة ما يعرف بمشروع إصلاح الشرق الأوسط الواسع وشمال افريقيا (WMENA) والذي تأسس في الرباط في ديسمبر / كانون الأول 2004 كدعم من الدول الثماني الكبرى (G8) بقيادة الولايات المتحدة لدول الشرق الأوسط الواسع وشمال افريقيا (WMENA) في التحديث والإصلاح والتحول الديمقراطي. وإذا كان مؤتمر وزراء خارجية منتدى المستقبل الأول قد وضع التصور العام للمشروع فقد شهد العام 2005 عدداً من المؤتمرات التحضيرية لممثلي المجتمع المدني في المنامة والدوحة وصنعاء والرباط واسطنبول وفينيسيا، لبلورة تصورات مؤسسات المجتمع المدني للمؤتمر الوزاري لمنتدى المستقبل في دورته الثانية. وانعقد المؤتمر في العاصمة البحرينية المنامة، في الفترة 11 12 نوفمبر/ تشرين الثاني، والذي حضرته جميع الدول المعنية باستثناء إيران. كما شهد العام 2005 مشاورات فيما بين الدول الأعضاء واجتماعات اللجنة المسيرة (steering committee) والمشكلة من الدول الثلاث المناوبة على رئاسة مجموعة الثماني السابقة والحالية واللاحقة (الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا) والدول المضيفة لمؤتمر منتدى المستقبل كذلك (المغرب والبحرين والأردن). ومن أهم ما قرره مؤتمر منتدى المستقبل في البحرين تشكيل هيئة المستقبل المعنية بدعم مؤسسات المجتمع المدني، وخصّص لها 35 مليون دولار وصندوق المستقبل المعني بدعم رواد الاعمال من النساء والرجال، لبدء مشروعاتهم الصغيرة وخصص له 150 مليون دولار.
الاتفاقات الثنائية
لم يكن منتدى المستقبل هو المحفز الوحيد لدول المنطقة لاظهار عزمها على الإصلاح، بل ان الولايات المتحدة ومن خلال عرضها لاتفاقات التجارة الحرة مع البلدان العربية، حفزت عدداً منها لادخال إصلاحات وخصوصاً الاقتصادية لتتأهل للاتفاق، إذ نجحت المغرب والبحرين في اجتياز الامتحان خلال العام 2005، وصدقت كل من الولايات المتحدة ومملكة البحرين على اتفاق التجارة الحرة بين البلدين، والذي سيصبح نافذ المفعول بدءًا من فبراير/ شباط 2006. ولا يخفى على أحد ان الانضمام لمنظمة التجارة العالمية يتطلب الى جانب التصديق على مجموعة من الاتفاقات، إدخال إصلاحات اقتصادية يترتب عليها الشفافية في معاملات الدولة، والمنافسة الحرة لارباب العمل، وتكافؤ الفرص والحد من تدخل الدولة في الاقتصاد وملكيتها لصناعات أو منشآت اقتصادية. والحدث الابرز في هذا الخصوص هو قبول عضوية المملكة العربية السعودية صاحبة أكبر اقتصاد عربي في عضوية المنظمة، إذ يسعى من تبقى من الدول العربية (الجزائر، والسودان ولبنان واليمن والعراق) للانضمام اليها. من ناحية أخرى، يلاحظ الدور المتزايد لمنظمات رجال الأعمال العرب سواء على المستوى القومي أو على المستوى الوطني في كل بلد في رسم السياسات الاقتصادية ومشروعات الإصلاح الاقتصادي والسياسي. فإلى جانب الغرف التجارية والصناعية المعروفة والتي غالبا ما تكون رديفة للحكومة، فانه يلاحظ تشكيل رجال الأعمال من أكثر من بلد عربي مثل المغرب والجزائر وتونس ومصر والسعودية والبحرين ولبنان منظمات خاصة بهم. بل ان الأمر تطور الى تشكيل منظمات لسيدات الأعمال، في هذه البلدان أيضاً، والبعض خطا خطوة أخرى في تشكيل منظمات لرواد الأعمال الشباب. ويلاحظ ان جمعيات رجال الأعمال العرب، أكثر ديناميكية في تعاطيها مع قضية الإصلاح الاقتصادي واكثر تحرراً في علاقاتها مع الدولة، وأكثر انفتاحاً في تعاطيها مع المنظمات الدولية المعنية بالأعمال وفي مقدمتها منتدى دافوس. كما يلاحظ ان الكثير من قيادات هذه الجمعيات هم رجال الاعمال الليبراليون والذين لا ينحدرون بالضرورة من عائلات تجارية وصناعية تقليدية، وممن لم يرثوا ثرواتهم بل بنوها بأنفسهم، كما ان غالبيتهم ممن تلقوا تعليماً أكاديمياً في الغرب، ولذلك فهم على اطلاع على تطورات الاقتصاد والتجارة العالميين. وقد أضحى تقليداً ان يشارك منتدى رجال الأعمال العرب في المؤتمر السنوي الاقتصادي في دافوس بسويسرا في مارس / آذار من كل عام. كما عقدوا مؤتمرهم السنوي وللعام الثاني على التوالي في منتجع البحر الميت في الأردن بالترتيب مع مؤتمر دافوس ومشاركة الكثير من المسئولين ورجال الاعمال والخبراء والاقتصاديين العرب والاجانب. وقد عقد منتدى رجال الاعمال العرب مؤتمرهم أيضاً في مملكة البحرين في الفترة 9 10 نوفمبر، قبيل انعقاد منتدى المستقبل في 11 12 نوفمبر 2005. ويلاحظ ان تجمع رجال الأعمال العرب على المستوى القومي والوطني يؤكد ضرورة الإصلاح الاقتصادي العميق، وان يكون لمنظمات رجال الأعمال دور مقرر في رسم السياسات الاقتصادية ومشروعات الإصلاح الاقتصادي والاتفاقات الاقتصادية التي تبرمها بلدانهم مع المنظمات الدولية والدول الأجنبية. وفي هذا الصدد فإن منظمات رجال الأعمال العرب، تعمل على تفعيل منظمات وآليات رقابة لرصد الفساد والاحتكار والامتيازات غير المشروعة من قبل الدول وتنفيذها، ولهذا تدعم وتشارك في منظمات الشفافية والتنمية والتنافسية، والمعايير والجودة، والتي هي منظمات وسيطة ما بين قطاع الأعمال والمجتمع المدني. ويمكن القول ان هناك اهتماماً متزايداً من قبل منظمات رجال وسيدات الأعمال العرب بقضية الإصلاح والتحول الديمقراطي بعد إدراكهم ان الإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي متلازمان، وانه من دون تحالف فئة أرباب الأعمال ذوي التوجه الإصلاحي والتنموي، مع القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني الإصلاحية والديمقراطية، فإنه لا يمكن اجبار الانظمة العربية ولا فئات المتنفذين المستفيدين من احتكار الدول وتسلطها، على ادخال إصلاحات ذات معنى. صحيح أن الحوار بين الطرفين هو في بدايته، وحتى الآن لم يتحول الى تحالف استناداً الى برنامج إصلاح واضح، ولكن من الضروري إقامة هذا التحالف وتعزيزه. وسنعرض بعض محاور وتحليلات الإصلاح والتحول الديمقراطي الضرورية ومدى ما تحقق منها في بعض البلدان العربية.
الإصلاح السياسي
يلح الإصلاح السياسي على النظم العربية إذ لم تعد المعارضة تطرح تغيير انظمتها. الاستثناء كان في موريتانيا، إذ أطاحت النخبة العسكرية بنظام معاوية ولد الطايع الاستبدادي. ومن خلال التطورات خلال الأشهر الماضية، فإنها واعدة بالانتقال الى الحكم المدني المستند إلى التعددية وصندوق الاقتراع.
الحكم العربي... مال ووراثة
وتكمن معضلة الإصلاح السياسي في المنطقة العربية في غياب قوى تحالف قوى سياسية قادرة على فرض الإصلاحات، وطبعاً عدم رغبة الأنظمة العربية في إدخال إصلاحات جذرية تفتح الطريق أمام تداول السلطة. ان مكمن قوة الأنظمة العربية هي انها تمسك بالسلطة والثروة في الوقت ذاته، وتكرّس سيطرتها على السلطة من أجل الاستيلاء على مزيد من الثروة. والملاحظ ان مركز السلطة سواء كان في الأنظمة الملكية أو الجمهورية ضيق جداً، ويتخذ حتى في بلدان النظام الجمهوري طابع الاسرة الحاكمة، إذ برزت ظاهرة التوريث بعد عقود من حكم الحزب الواحد والعائلة الواحدة، على رغم وجود شكليات التعددية السياسية ومؤسسات الدولة الشكلية بسلطاتها الثلاث، لكن الضغوط الخارجية والداخلية تزداد لاحداث تغيير فعلي. شهد العام 2005 إقراراً ولو شكلياً بضرورة الإصلاح السياسي مع الممانعة في التنفيذ أو الاحتيال في التنفيذ أو الالتفاف على مطل
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 1237 - الثلثاء 24 يناير 2006م الموافق 24 ذي الحجة 1426هـ