ثمة انواع كثيرة من السوس السياسي خصوصاً، ينخر في حياتنا العامة، فيقوض أسسها فإذا هي كالجذوع الخاوية من شدة التهافت، وانظر ملياً إلى سوس الاستبداد والنرجسية الزعامية، والفساد والشللية، والطائفية والعائلية، ومراكز القوى وجماعات المصالح، وقوافل النفاق والمنافقين، التي تلتف حول الحاكم فتأسره وتخنقه حتى لا يرى الحقيقة، فاذا جاز لنا ان نختار، فاننا سنختار الحديث اليوم، عن سوس الاختراق ثم الانشقاق السياسي والحزبي، الذي ينخر في حياتنا السياسية والاجتماعية العامة، فيمزق وحدتها ويشتت جهودها، وفي النهاية يعرقل حركة الإصلاح الديمقراطي الحقيقية، حين يشيع التفتت العمدي، خصوصا اذا تعلق الأمر باختراق الاحزاب السياسية، التي هي في الاصل مازالت هشة البنيان لدواعي كثيرة ولضغوط كثيرة تمارسها السلطات الحاكمة. ولنا هنا خمس ملاحظات مبدئية هي: ** تقوم نظم الحكم الديمقراطية، أو التي تتشبه بالديمقراطية، على اساس التوازن الدقيق بين الاحزاب الحاكمة صاحبة الغالبية، والاحزاب المعارضة، عبر اجراء انتخابات حرة تنافسية متكافئة دون لبس أو غموض، لا تحقق نزاهة التصويت فقط، ولكنها تكفل تداول السلطة وتبادل المواقع بين المتنافسين. وانظر إلى ما يجري في دول مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا والهند، ناهيك عن الولايات المتحدة الأميركية... إذ تتمتع هذه الدول بتعددية واضحة وتنوع كبير في الاحزاب، وإذ إن حرية تكوين هذه الاحزاب مكفولة دستوريا وقانونيا، ولكن في الغالب الاعم يبرز حزبان كبيران عبر قانون الانتخاب الطبيعي، يتداولان السلطة دوريا، ولا يكاد حزب واحد يحافظ على استمراره في الحكم لعدة مرات متتالية، وبالتالي لسنوات طويلة، ** إلا أن اللافت للنظر في حالتنا العربية عموماً، إذ الديمقراطية أصلاً ضعيفة وحديثة، ان حزبا وحيدا، هو حزب الحكومة والحاكم، الحزب القائد والرائد والمسيطر، يحتكر الغالبية، عبر انتخابات على «قدر المقاس» طالما ان الحاكم هو المسيطر والباقي دون تداول حقيقي للسلطة. ** ولكي تحقق هذا الهدف وتستمر بهذه الأوضاع «غير الديمقراطية» تلجأ هذه الحكومات إلى حيل وألاعيب أصبحت مكشوفة، وخصوصاً تشكيل احزاب ورقية لا وزن لها ولا تأثير، مثلما تلجأ إلى ممارسة سياسة اختراق الاحزاب القوية، والتي يمكن ان تشكل منافسا حقيقياً، وتزرع فيها بذور الانشقاقات والتمزق، لسلبها سر قوتها، وتحاصرها معزولة في مكاتبها الضيقة، وتحرمها من التواصل الحقيقي مع الناخبين، فضلا عن اللجوء إلى تزوير الانتخابات وتزييف ارادة الناخبين، حتى يبقى «الحزب الحاكم» حاكماً دون منافسة حقيقية، وفي غيبة عن المسألة والمحاسبة، ** وإذا كان الحزب الحاكم، يصر بقوة فرض الأمر الواقع، على الاستمرار في الحكم دون تغيير حقيقي، ودون اعطاء الفرصة لتداول السلطة، فإن الاحزاب المعارضة تساعد أيضاً على استمرار هذه المعزوفة النشاز غير الديمقراطية، حين تستورد عدوى عدم التغيير والجمود الثلجي، ويسعى زعماؤها لتقليد الزعيم الاوحد، بالاستمرار في الزعامة الحزبية. في حين نرى في الدول الديمقراطية، كيف يبادر زعيم أي حزب بالاستقالة فور هزيمته في الانتخابات، لاخلاء مكانه لزعيم جديد، يعيد ترتيب البيت من الداخل استعداداً للجولة القادمة، ** هذه هي حال الاحزاب السياسية في الدول العربية، من المغرب إلى لبنان، وقد رأينا على مدى تجارب السنوات الماضية، كيف تجمدت وتكلست احزاب، وكيف نخر سوس الاختراق فالانشقاق داخل احزاب أخرى، كانت قوية فانقسمت وتفتت إلى شظايا حزبية ضعيفة، بما في ذلك الاحزاب اليسارية والشيوعية، والليبرالية، والقومية... اكلها السوس، ومرة أخرى، وليست أخيرة، سنأخذ مصر حالة للتأمل والدراسة، لانها حالة حيوية وواعدة من ناحية، وحالة تنطبق عليها ربما أكثر من غيرها، حكاية سوس الاختراق فالانشقاق، وصولا للوهن الذي يسبق الموت، من ناحية ثانية، وحالة تنقل العدوى إلى الدول العربية الأخرى من ناحية ثالثة، لن نعود إلى مرحلة ما يسمى الليبرالية الأولى في مصر، فيما بين عامي 1919 و1952، ولكننا حين نقرأ الخريطة الحزبية الحديثة، منذ عودة النظام الحزبي العام 1976، نلاحظ انه لا يكاد حزب من الاحزاب السياسية المتكاثرة، ينجو من ظاهرة الاختراق وسوس الانشقاق، سواء كان حزبا حاكما أو حزبا معارضاً، وان كانت الاحزاب المعارضة هي الأكثر استهدافاً. لقد تعرض الحزب الوطني الحاكم على مدى العقود الثلاثة الأخيرة للتفتت الذاتي والانشقاق الداخلي على رغم سيطرته على كل مؤسسات الحكم والدولة، الأمر الذي اضعف قواه وافقده بعض الصدقية، ولعل ابرز الانشقاقات تلك التي تكررت عند كل انتخابات عامة، حين تبادر العناصر التي يستبعد الحزب ترشيحها على قوائمه الى الاستقالة منه والانشقاق عنه، لتخوض الانتخابات بصفة مستقلة، لكنها سرعان ما تعود إلى صفوف الحزب بعد نجاحها، في خطوة تتميز بالنفاق الحزبي والتدليس والخداع للناخب، ومن ثم الاساءة إلى مجمل العملية السياسية، ولولا عودة «المنشقين» إلى الحزب الوطني الحاكم، في انتخابات العام 2000، ثم في انتخابات العام 2005، لما تمكن من تحقيق الغالبية الساحقة التي حازها. فإذا كان هذا هو حال الحزب الحاكم المتمتع بكل الامتيازات، فإن حال احزاب المعارضة لا يقل سوءا، فلا نكاد نرصد حزبا معروفا الا واصابه سوس الاختراق فالانشقاق... هكذا جرى الحال لحزب العمل، ولحزب الاحرار، ولحزب الغد ولحزب العدالة، من ناحية، ولحزبي التجمع والناصري نسبيا من ناحية ثانية، وكانت النتيجة «التجميد» بقرار من لجنة الاحزاب بسبب خلافات المتصارعين، أو الشلل والوهن والبقاء بين الحياة والموت، انتظارا لرصاصة الرحمة، ونظن ان معظم هذه الانشقاقات، قد حدثت باختراق صريح أو مبطن من جانب الحزب الوطني مباشرة، أو من خلال أجهزة الأمن بأساليب غير مباشرة وغير واضحة، وهي أمور لم تعد تشكو منها هذه الاحزاب وحدها، ولكنها أمور صارت شائعة ومعروفة بين أوساط السياسيين والحزبيين ومتابعي الشأن العام في مصر المحروسة. والثابت لدينا أن اختراق احزاب المعارضة وزرع السوس في هياكلها لإحداث الانشقاقات المستمرة، يهدف قطعا إلى اضعافها واجهاض الواعد وعرقلة طرق تقدم المبشر منها، لمنافسة الحزب الحاكم اليوم أو غدا، حتى قبل ان يكتمل نضجه، ومن ثم فان ذلك يؤدي بالضرورة إلى اضعاف المنافسة الحزبية، ويعرقل الإصلاح الديمقراطي المنشود، ويمنع تداول السلطة وتبادل المواقع من المنبع، اما ما جرى ويجري لحزب الوفد الليبرالي فحكاية لها ما بعدها، إذ إن تسرب سوس الاختراق والانشقاق إلى هذا الحزب العريق، انما يشكل ضربة موجعة للحياة السياسية ومستقبلها في مصر المحروسة، باعتبار ما لديه من تراث حزبي قديم يرتبط بزعماء الحركة الوطنية، وباعتبار ما كان يأمله كثير من المنشغلين بالعمل العام والمهمومين بالتطور والإصلاح الديمقراطي، من دور حيوي محوري له في اثراء الحياة السياسية عموماً. صحيح ان تاريخ حزب الوفد شهد من قبل، وفي ظل زعاماته التاريخية القديمة، انشقاقات واختراقات مهمة، مثل انشقاق مكرم عبيد سكرتيره العام، ضد زعيمه مصطفى النحاس، ومثل انشقاق «الطليعة الوفدية» التي ضمت لفيفا من شباب الوفد «الثوريين»، لكن انشقاق الأيام القليلة الماضية، بين جبهة رئيسه نعمان جمعة، وجبهة المعارضين له بزعامة محمود اباظة ومنير فخري عبدالنور ومحمد سرحان، يمثل اكبر واخطر الانشقاقات قاطبة، على مستقبل هذا الحزب، كما على مسيرة الحياة الحزبية في مصر. ولاننا لا نملك دليلا موثقا، حتى الآن، على اختراق جهة أخرى أو حزب آخر، للوفد، أدى إلى انشقاق الاحدث، فإن الواضح ان سوس الانشقاق، تمثل ببساطة في ما يبدو انه «صراع على السلطة» بين طرف يرى انه على حق في إدارة الحزب، وطرف آخر يتهمه بالدكتاتورية والفشل الذي لقيه الوفد، سواء في النتائج الهزيلة لانتخابات الرئاسة، أو في تلك المماثلة لها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، في الأولى جاء مرشح الحزب نعمان جمعة الثالث، وحصل فقط على نحو مئتي ألف صوت، وفي الثانية لم يحصل الحزب الا على ستة مقاعد في البرلمان الحالي، في حين قفزت جماعة الاخوان المسلمين، غير المعترف بها رسميا، إلى صدارة المعارضة بحصولها على 88 مقعداً. وبينما كان الجميع ينتظر ان يبادر هذا الحزب الليبرالي، إلى نقد ذاته وإصلاح احواله وترتيب بيته الداخلي، استفادة من دروس الفشل، ليبدأ مرحلة جديدة، وفق قواعد الديمقراطية السليمة، سارع إلى الانشقاق، وحل الخلافات الداخلية بالعزل والطرد والفصل، بعد ان انسدت قنوات الحوار والتفاهم، وسواء لعب الحزب الوطني وحكومته، دوراً في انشقاق حزب الوفد، أولم يلعب، فإن الواقع يضعنا امام معضلة جديدة قديمة، وهي ادماننا الفشل في إدارة الحوار الحر بين الأطراف المختلفة، وفي الاسترشاد بالاخطاء، وتجاوز الخلافات، لبناء ما هو سليم وقوي على طريق الإصلاح الديمقراطي، الذي نشكو من غيابه، لكننا لا نعمل بجدية لتحقيقه حين تواتينا الفرصة. هل هو السوس السياسي وحده، أم أن هناك أسبابا أخرى، يقول الشاعر: يا للرجال لداء لا دواء له وقائد ذي عمى يقتاد عميانا * أمين عام اتحاد الصحافيين العرب
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1237 - الثلثاء 24 يناير 2006م الموافق 24 ذي الحجة 1426هـ