هذا العنوان هو عنوان شريط سينمائي (فيلم) حضرته حديثاً، وهو فيلم يتحدث عن قضية محددة هي تحرير الكويت من نيران الاحتلال العراقي قبل خمس عشرة سنة من اليوم تقريباً، ولكنه في أثناء رواية القصة من وجهة نظر مجند أميركي، يرسل الفيلم مجموعة من الرسائل للمشاهدين الأذكياء فقط، أما من تولاهم الرب بنصف ذكاء فسيشاهدون فيلماً فيه بعض المعارك الكلامية والحربية المثيرة. والفيلم مثل كل الأفلام الأميركية، فيه من التشويق والإثارة ما يكفي كي يبقيك على مقعدك السينمائي حتى آخر العرض. ولكن لماذا هذا العنوان الغامض «رأس الجرة»؟ طبعاً هو شرح لطريقة تدريب المجند الأميركي في مشاة البحرية، بأن يعترف من دون تردد أو تأخير من خلال عدد من الضغوط، أن رأسه فارغة كمثل رأس الجرة فارغاً من كل شيء عدى الهواء، وتلقي الأوامر وتنفيذها. فهو يعرض إلى قصة مجند دخل مشاة البحرية الأميركية لأنه لا يستطيع أن يعمل شيئاً آخر في حياته، فاحتمال حصوله على وظيفة أو عمل معقول، احتمال ضئيل في مجتمع تنافسي قاس لا يرحم. ولأن نظام المشاة في البحرية الأميركية يكفل دخلاً ثابتاً ومعقولاً، وإذ إن إمكان اشتعال حرب كبيرة تشارك بها الولايات المتحدة (العام 1988) هو احتمال ضئيل للغاية، فلا بأس من الانخراط في هذه المهنة. يدخل بطل فيلمنا إلى مشاة البحرية وهو لا يعلم ماذا سيقابل، أما المفاجأة فهي طريقة تدريب مشاة البحرية، إذ تنتزع من عقل المجند وبشكل فظ ومن أول يوم فكرة انه إنسان يمكن أن يفكر أو يقرر. الشتيمة المقذعة هي السائدة بين الجميع، من الكل وإلى الكل، سواء كان مدرباً لا يحمل أكثر من رتبة عريف حتى الجنرال، فهم جميعاً يتحدثون لغة «شوارعية» مغرقة في الإسفاف. ولمن يتوقف عند هذه النقطة من فريق كارهي أميركا المحترفين سيجد أن لديه من الشواهد والأدلة على صلف الإنسان الأميركي ما يكفي حتى يصل إلى قرار أن هذه أمة لا أخلاق لها البتة، حيث البعد الإنساني معدوم في العلاقات. في أحد المشاهد أثناء التدريب يزحف المجندون تحت وابل من انهمار الرصاص الحي، وتحت مطر شديد تنتاب المخاوف أحد المجندين الزاحفين، فيحاول الوقوف، ولأن الرصاص منهمر على علو نصف متر، يصاب مباشرة وترتمي جثته على الأسلاك الشائكة تقطر دماً منتفضاً يلفظ الروح، فيقترب منها المدرب أمام الجميع ويخاطب الجثة، بعد أن أمر بوقف إطلاق النار: «لم تسمع كلامي، ولو سمعته لما أصبحت جثة هامدة». لا يتابع المشاهد بعد ذلك ماذا حصل في الحادث، هل حقق فيه أم لا، فالمخرج يمر عليه مروراً سريعاً، وكأن حياة هذا الجندي تافهة إلى ذلك الحد، أما استقبال المجندين الجدد من قبل زملائهم السابقين، فهو سباق وحشي الطابع على تعذيب المجند الجديد حتى يفقد وعيه، بادعاء محاولة وشمه بسيخ محمي من الحديد، بعد توثيقه إلى سرير بسلاسل، وما أن يقترب سيخ النار إلى جسم المجند حتى يغمى عليه، وبعد أن يفيق يخبره الزملاء أنها حفلة استقبال، وأن أراد أن يكوى في جسمه بشعار الفرقة، عليه أن يكسب ذلك بجده، فالكواء بسيخ الحديد في مشاة البحرية الأميركية هو جائزة لا ينالها إلا المحظوظون لا عقاب، يتدرج بطل الفيلم في التدريب العسكري الشاق، حتى يكتشف قادته قدراته في التصويب فينضم إلى فرقة القناصة، وسرعان ما تتداعى الحوادث ليُعلن للعالم أن الكويت احتلت من الجيش العراقي بقيادة دكتاتور قاتم هو صدام حسين، وتدخل فرقة بطل الفيلم الاستعدادات النهائية للحرب. هنا يتم انتقال الفرقة إلى الصحراء، ويساير الفيلم قصص الجنود في هذه الفرقة مع محبيهم في وطنهم، أم أو صاحبة أو زوجة، ويتابع قصص عدم الوفاء المُر وتأثيره على نفسية الجنود، مع من بقوا في الوطن من المحبين، إلى درجة أن صديقة بطل الفيلم تتركه لأنها وجدت في مساعد مدير الفندق الذي تعمل فيه أنه رجل ظريف. هنا التناقض بين «خدمة الوطن» أو «استمرار الحياة العادية للناس العاديين»، إلا أن التناقض لا يقف هنا، فقد كُلف بطل الفيلم بأن يقف حارساً للخيمة في الصحراء، لأن الفرقة تريد أن تحتفل بليلة «الكريسماس»، ولأنه شغوف بأن يساهم في الاحتفال، تمنى على صديق مجند، يبدو ضعيف الشخصية، بأن يأخذ مكانه، ويوافق الصديق، إلاّ أن نفس الأخير تسول له أن يطهو شيئاً من النقانق، ويغفل للحظة فتشب نار موقده في الخيمة، وتطال صندوق المفرقعات المجلوبة للفرقة للاحتفال، وتضج السماء بأصوات المفرقعات ويحسب الجميع أن الحرب قد قامت. إلاّ أن نتيجة العمل الأخرق ذاك أن قدم البطل للمحاكمة العسكرية وحفظت رتبته، وفوق ذلك كلف بتنظيف المراحيض، وهي عبارة عن كبائن في الصحراء، تحتها براميل، وكان عليه أن ينظف تلك البراميل، في شكل مهين ومقرف. تنشب الحرب في نهاية الأمر، بعد عدد من التدريبات على لبس الأقنعة الواقية من الإشعاعات والكيماوي المقدر أن تستخدمه القوات المعادية، ويظهر هنا عذاب الجنود مع تلك الأقنعة. ويتقدم الرهط، أو القناصة من أجل القيام بواجبهم، مشياً في الصحراء، إلاّ أن الطائرات تمر من فوق رؤوسهم قادمة آتية، بل وتقذفهم بالقنابل، ولم يروا أي عدو حتى عن بعد. ثم يظهر منظر طريق الموت، وهو الطريق بين الكويت والبصرة الذي حصدت فيه القوات الجوية للحلفاء بقايا المنسحبين من فلول جيش صدام بكل ما حملوا من مغانم. يجلس البطل في ظل السواد المنهمر من حرائق النفط المشتعلة وبقايا نفط تذرّه الأمطار، يجلس مع هيكل إنساني متفحم مجلل بالسواد جالساً القرفصاء، ثم بعد ذلك يستفرغ بشدة، يريد المخرج هنا أن يقارن بين الشعور الإنساني الذي لا يفارق البشر، مهما كان موقعهم من الخلاف والاختلاف. تستعصي قاعدة عراقية جوية عن السقوط في جنوب العراق، ولأن الطيران المتحالف مشغول لفترة، يكلف البطل مع رفيق له لاقتناص من هم في برج المراقبة، ويصل الاثنان إلى قرب الموقع ويشاهدون فعلاً رجلين في برج المراقبة، يضبطان عليهما فوهة البندقية سريعة الطلقات ذات المنظار المكبر، ويأخذان الإذن من القيادة لإطلاق النار، يأتيهم الإذن، في هذه اللحظة يدخل عليهم ضابط كبير يأمرهم بعدم إطلاق النار، يستشيط أحدهم غضباً إلى درجة الاشتباك مع الضابط الكبير باليد، وبعنف شديد، انه يريد أن يشترك في الحرب ولو بطلقة واحدة ولو للحظة واحدة، إلاّ أن الضابط يقول لهما إن القوات الجوية ستتكفل بالأمر، وفي لحظات تُنسف القاعدة من طريق الجو في ثوان معدودة عن بكرة أبيها وبكل أفرادها ومعداتها. وتعلن نهاية الحرب، ولم تطلق فرقة القناصة بعد كل هذا التدريب والمعاناة الإنسانية الشاقة، طلقة واحدة، عندما يبدأ الفيلم يقول الراوي إنه إذا تعودت يداك على إطلاق النار فان هاتين اليدين لا تعرفان شيئاً من شئون الحياة غير إطلاق النار، وينتهي الفيلم وصاحبنا بلا عمل في إحدى مدن الولايات المتحدة، ينظر إلى يديه التي تعودت فقط على إطلاق النار، ويكرر الراوي من جديد قصة اليد التي لا تعرف غير إطلاق النار. رسالة الشريط السينمائي لها مضامين عدة تغني عن ألف كلمة منمقة، هي أن الرأس الفارغ كرأس جرة لا يستطيع أن يقدم إلاّ العنف، ولكنه هو الذي يقود عالمنا اليوم، ترى كم رأساً فارغاً كرأس الجرة حولنا؟ * كاتب كويت
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1236 - الإثنين 23 يناير 2006م الموافق 23 ذي الحجة 1426هـ