العدد 1236 - الإثنين 23 يناير 2006م الموافق 23 ذي الحجة 1426هـ

العثور على كتابات لصانعي الأساطير

بعد أن اعتبرها الجيش الأحمر السوفياتي من الغنائم

تم العثور حديثاً عن طريق المصادفة على 9 مجلدات (القاموس الألماني) بخط الكاتبين القصصيين الألمانيين يعقوب وفلهيلم جريم يحتوي على ملاحظات عدة وضعها الشقيقان. وكان الخبراء قد ظنوا أن هذه المجلدات تعرضت للفناء واختفت إلى الأبد. وهي من الغنائم التي نقلها الجيش الأحمر السوفياتي حين احتل برلين بعد سقوط نظام هتلر وكان هذا قد مهد لنهاية الحرب العالمية الثانية.

وكانت حكومة المستشار السابق هيلموت كول قد حاولت بعد استعادة ألمانيا وحدتها استغلال الصداقة الجديدة مع الاتحاد السوفياتي وراحت تطالب موسكو بإعادة الغنائم الفنية الثمينة ومنها ما يعرف باسم غرفة بيرنشتاين المذهبة ولوحات ووثائق وكتب لا تقدر بثمن في يومنا هذا.

فرصة تاريخية

يعتقد أن مجموعة من كتب الشقيقين جريم كانت مودعة في مكتبة الدولة بمدينة برلين ولم تخضع الكتب التي حكم عليها بأنها فقدت للأبد للمعاينة والدراسة من قبل العلماء. وقال بيان أصدرته مؤسسة رعاية المخلفات الأدبية للشقيقين يعقوب وفلهيلم جريم إن العثور على التركة الثمينة فرصة تاريخية لتركيز الأضواء من جديد على أدب الشقيقين.

وذكرت المؤسسة أن خبير أدب الشقيقين جريم، البروفيسور والباحث الذي ينحدر من نيوزيلندا، ألان كيركنيس، عثر على هذه المجلدات عن طريق المصادفة. خلافاً للمجلدات الأخرى التي كتبها الشقيقان جريم، لم يسبق لأحد أن اطلع على الكتب الجديدة على عكس المؤلفات والمجلدات القديمة التي تناولها الباحثون وصدرت عنها قصص وكتب وتحولت إلى أفلام تلفزيونية للأطفال، لكن هذه الأفلام مازالت حتى اليوم تجتذب الكبار بالسن أيضاً، فإن المجلدات المكتشفة حديثاً ستشغل الخبراء بأدب الشقيقين جريم عدة أعوام.

وكان البروفيسور كيركنيس يجري بعض الأبحاث في مكتبة تابعة لجامعة جاجيلونن بمدينة كراكاو البولندية وتوصل عن طريق المصادفة إلى هذا الكنز الأدبي. وفقاً لأقوال البروفيسور كيركنيس يحتمل أن تكون هذه المجلدات الطبعة الثانية من (القاموس الألماني) الذي أعده الشقيقان يعقوب (1785 - 1863) وشقيقه فلهيلم (1786 - 1859).

قصة الماعز الأم

وقال كيركنيس: منذ 30 سنة أبحث أنا وأعلم أنني لست الوحيد، عن المجلدات الضائعة والآن تحقق حلم كبير لعشاق أدب الشقيقين جريم. معنى ذلك أن أدب الشقيقين جريم مستمر في العطاء. مَنْ مِن القراء لم يعرف بعد عمن يدور الكلام قد يكون سمع أو قرأ أو شاهد فيلما عن قصة الماعز الأم أم الصغار السبعة التي أرادت ذات يوم الذهاب إلى الغابة لجمع القوت لأطفالها وطلبت منهم عدم فتح الباب للذئب المرعب الذي يتربص بهم وحذرتهم من أنه سيأكلهم جميعا. ثم يتقمص الذئب شخصية الأم وصوتها ويتمكن من دخول المكان ويأكل الماعز الصغر ثم يخلد إلى النوم. ثم تأتي الأم تبحث عن أطفالها ولا تجدهم وتكتشف أن الذئب ابتلعهم جميعا فتستغل خلوده إلى النوم وتفتح بطنه وتخرج أطفالها أحياء وتحشي بطن الذئب بالحجارة وعندما أفاق من سباته العميق شعر بالحمل الكبير في بطنه وحين أراد أن يشرب من بئر عميقة هوى فيها. وهناك قصة فلهيلم الفارس البارع في تسديد رمحه ليصيب تفاحة على رأس أحد الأشخاص.

قمة الذكاء

لم يتقن أحد من أدباء ألمانيا في العصر القديم التلاعب بالكلمات والخيال مثلما فعل الشقيقان يعقوب وفلهيلم جريم. كان الشقيقان جريم في قمة الذكاء وفي الوقت نفسه مختلفان عن بعضهما بعضاً. فكان يعقوب الأخ الأكبر صارما مثل المعلم الدقيق المتعب، صعب المراس وشديد التقيد بالعادات والتقاليد، كما كان محبا للعمل يمضي اثنتي عشرة ساعة على مكتبته في الكتابة والقراءة. كان ضعيف البنية وقصير القامة ولم يهتم بالنساء لكنه كان مكبا أكثر من شقيقه فلهيلم بكثير على التحصيل العلمي.

أما فلهيلم الذي كان يصغر شقيقه يعقوب بعام واحد، فكانت تقاسيم وجهه توحي بطبيعته الاجتماعية المرحة، لكنه كان يعاني من ضعف في القلب وكان يعشق الفنون ويعيشها. كما كان رومانسيا وبارعا في اختلاق الحكايات وكتابتها بلغة موسيقية. هذا الخليط للطباع المختلفة للشقيقين جريم كان نتاجه أعمال قصصية ستتناقلها أجيال مقبلة. وقد ترجمت أعمالهما إلى 160 لغة.

على رغم اختلاف شخصية كل منهما، مع ذلك سار الشقيقان معا على طريق واحدة، متحابين ومتعاونين إلى أبعد الحدود. عاشا على الدوام في بيت واحد (في وقت لاحق انضمت إليهما دوروثي زوجة فلهيلم)، وعندما يكون أحدهما على سفر كان يكتب للآخر الكثير من الرسائل التي وقعت لاحقا بأيدي الباحثين وتم التعامل معها كفن وتركة غالية من تركة الشقيقين جريم.

جامعا أساطير

وقد اشتهر الشقيقان يعقوب وفلهيلم جريم معا كجامعي أساطير وعالمي لغة من الطراز الأول وكان كل منهما مكملا في عطائه وإبداعه للآخر وإلى أبعد الحدود. وحتى كأستاذين جامعيين في جامعة جوتنجن وفي الأكاديمية البروسية للعلوم في برلين كانا معا على الدوام ولم يفرقهما سوى الموت. كان الشقيقان أكثر من حظ سعيد لألمانيا. إذ إن الأساطير التي تحدثا في قصصهما عنها كانت ومازالت بالنسبة إلى الثقافة الألمانية أهمية أساسية لا تقل عن أهمية مارتن لوثر الذي نقل الإنجيل إلى الألمانية، وكذلك فولفجانغ يوهان غوته. الأجيال كافة تناقلت قصص الشقيقين يعقوب وفلهيلم جريم وليس من المتوقع أن يتوقف تداول قصصهما عند الأجيال المقبلة.

مساهمة في الوحدة

من المؤكد أيضاً أن الأساطير الشعبية التي وضعها الشقيقان ساهمت مساهمة فكرية لا يستهان بها في الوحدة السياسية لألمانيا. في زمن لم تكن ألمانيا وجدت بعد وكانت مجرد دويلات صغيرة متناحرة، كانت مجموعة القصص (أساطير للأطفال والبيت) منتشرة في المناطق الألمانية وفي العام 1812 صدر لأول مرة كتاب يحتوي على عدد من القصص أعيدت طباعتها مراراً وتكراراً وكان الإقبال عليها كبيراً مثل الإقبال في عصرنا هذا على مؤلفات الكاتبة البريطانية جوان رولينغ التي أوجدت شخصية هاري بوتر.

صدرت في ذلك الوقت قصص (القبعة الحمراء) التي نقلت إلى اللغة العربية لاحقاً تحت عنوان (ليلى والذئب) والسندريلا (الأميرة النائمة والأقزام السبعة) وغيرها من قصص الخيال الواسع الذي ينقل المرء إلى ما وراء العالم الواقعي ولا يتجاهل دور الطبيعة الخلابة. اخترع الشقيقان يعقوب وفلهيلم جريم الأساطير وقاما بجمعها نقلا عن الحكايات الشعبية المتوارثة شفهيا جيلا بعد جيل، وصاغها الشقيقان بلغة بارعة وبأسلوب شيق ومرح في الوقت نفسه.

لكن الشقيقين جريم لم يكونا من رواة الأساطير البعيدين عما يجري في العالم واللذين انسحبا قبل ثورة مارس/ آذار العام 1848 إلى عالم خيالي خال من المشكلات والهموم، بل بالعكس كانا يعيشان الواقع بكل أبعاده وكانا من الشخصيات النشطة سياسيا. لم يكونا عنيدين مثل رجل الكنيسة لوثر ولا حكيمين رزينين مثل غوته. كان يعقوب ملتزم جدا بالقانون يؤمن بدولة على رأسها ملك قوي يوفر له أكبر قدر من الأمن والهدوء. لكنه تطور إلى رجل ديمقراطي قي الإرادة. فقد طرد في العام 1837 من البلاد لأنه كان قائد مجموعة الجوتنجيين السبعة التي كانت تتألف من شقيقه وخمسة أساتذة جامعين آخرين احتجوا ضد انتهاك ملك هانوفر للدستور. وكان الشقيقان جريم يتعرضان بسبب استقامتهما ووفائهما لأفكارهما للتسريح وفقدان مصدر الدخل. وفي العام 1848 وقف يعقوب الذي كان قد جمع في أيام شبابه خبرات دبلوماسية عندما عمل في مؤتمر فيينا كسكرتير للوفد المرسل إلى هناك، في اجتماع البرلمان القومي الألماني الأول في كنيسة (بولص كيرشه) في فرانكفورت، إذ كان نائباً مستقلاً وقدم مشروع قرار جريء يطالب بتحرير الشعب الألماني. لكن اقتراحه لم يحظ بقبول وقال إن هذا كان أسوأ يوم في حياته.

أوقات صعبة

تشير المعلومات التي تتحدث عن حياة الشقيقين جريم أنهما عاشا أوقات صعبة في الحروب والتحولات السياسية. ولد يعقوب وفلهيلم في مدينة هاناو قرب مدينة فرانكفورت والتي كانت بعد الحرب العالمية الثانية تعج بالجنود الأميركيين وعائلاتهم، كابنين لأب يعمل كاتبا في البلدية. وصلت الحوادث العالمية إلى ولاية هيسن التي تقع فيها هاناو وسيطر نابليون على مدينتي كاسل وماربورغ، حيث كانا يدرسان ويعيشان. تغير كل شيء وراحا يهتمان باللغة وانكبا على البحث عن الجذور المنسية في دراسات ألمانية قديمة وأعلنا في العام 1812 في مقدمة كتاب لهما يحتوي على أساطير شعبية: لعل الوقت مناسب جدا بالذات لجمع هذه الأساطير وتدوينها لأن أولئك الذين يحافظون عليها يصبحون أكثر ندرة.

هكذا وضع الشقيقان علم اللغة الألمانية وآدابها (الجرمانيستيك) وإلى جانب الأساطير أصبح مشروعهما الكبير (القاموس الألماني) المؤلف من عدة مجلدات وهذا أهم أعمالهما. كان يعقوب يقول: إن قوة اللغة تشكل الشعوب وتحافظ على تماسكها ولولا هذه الرابطة لتفكك الشعب. كانا يفكران قوميا ولكن دون أي ضيق في الأفق. فقد سافرا معاً بعيداً وكانا يفهمان لغات وآداباً أخرى، وكانا يؤيدان استقلال بولونيا ويدعمان اللغة الصربية وكانا يكتبان أشعاراً إسبانية كما كانا أعضاء في أكاديميات أجنبية. كانا أوروبيين بما في الكلمة من معنى. إذ إن قصصهما لم ترتبط بمكان محدد.

في العام 2005 ضمت اليونيسكو النسخ اليدوية من أساطير الأطفال والبيت للشقيقين جريم إلى التراث الوثائقي العالمي للأمم المتحدة وهناك خريطة تقود من مدينة هاناو إلى غابات مدينة بريمن وهي المناطق التي تحدث عنها الشقيقان في قصصهما.

حاجة للأساطير

في عالمنا اليوم هناك حاجة لقصص الأساطير وهذا ما يؤكده النجاح الكبير لمؤلف (هاري بوتر) الذي يقرأه الكبار قبل الصغار. فالأساطير كما يقول خبراء علم النفس تبعد المرء عن مشكلات الحياة اليومية وتشجع المرء على حسن التصرف وتفتح أمامه طرقا جديدة، ودائماً ينتصر الخير على الشر، كما تحيي فينا حب الأطفال وحقهم في الاستمتاع بطفولتهم، وهذا حق حرام أن ننكره عليهم





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً