وزارة الصحة كما الوزارات الأخرى الخدمية لم تخلُ على مر العقود الماضية من حالات الفساد في إداراتها المختلفة حتى قبل ان تتحول الى وزارة. أتذكر أنه في نهاية الستينات من القرن الماضي سكن في حينا القديم أحد الاشخاص وكان يعمل في الصحة، وكان هذا الشخص يبيع للجيران الفواكه والمؤنة التي كان يجلبها من مكان عمله في الصحة. وهذا الموظف المتواضع كان يسرق على «كده». بينما المراتب الأعلى في الجهات الحكومية كانت ومازالت تمارس الفساد المالي والإداري بمستويات وأساليب مختلفة. وهذا ما ساعد للاسف على انتشار ما يعرف بـ «ثقافة الفساد» التي انتشرت بين الناس لدرجة ان السرقة من الحكومة أصبح أمراً «مشروعاً» حتى أن أحد الادعياء من ائمة المساجد الافاضل هذا المدعي افتى لاحد المواطنين الذي لجأ اليه يستفتيه في مدى شرعية الاستفادة من خطأ فاتورة الكهرباء والماء الذي كان لصالح المواطن فأحل له ان يستفيد من هذا الخطأ وبالتالي ان يكسب من مال الحكومة بأن قال له أنت تأخذه أحسن ما يأكلونه «الكبارية» والحكومة لن تتضرر من هذا المبلغ البسيط. وبهذا المنطق فإن نهب المال العام أصبح حلالا وان التعدي عليه أمر مشروع، وخصوصاً أن الحكومة هي البقرة الحلوب التي لا تتأثر مهما أخد منها لانها كنز لا ينضب. لقد ساعد في انتشار الفساد غياب الديمقراطية ردها من الزمن وغياب الرقابة الشعبية على (المال العام) في ظل توزيع غير عادل للثروة حتى تحول الفساد في البحرين الى ظاهرة ملفته للنظر يشكو منها المواطن والاجنبي. وبدأ هذا الفساد المالي والإداري ينخر في عضد الاقتصاد وينتشر كالوباء في الإدارات المختلفة للدولة وخصوصاً خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي لدرجة أصبح الفاسدون يتفننون في اساليبهم لنهب المال العام من دون رحمة ومن دون وجود رادع يحد من انتشارهم السرطاني. ولم ينتهي الأمر عند ذلك بل تخطى ذلك الى توارث الفساد جيلا بعد جيل. فيذهب وزير ويأتي آخر من دون ان نرى بارقة أمل في ان يتم القضاء عليه أو حتى ان يحد من انتشاره. ليس هذا فحسب فقد أصبح الفساد مؤسسياً وعرفاً من الاعراف في كثير من وزارات الدولة التي شهدت تنامي الرشوة والمحسوبية لانجاز أية معاملة تتعلق بالتجارة أو بالخدمات المهمة للمواطنين من مسكن وكهرباء وماء وغيرها من الخدمات حتى وصلت الى الموانئ والجمارك والى وزارة الداخلية وإداراتها المختلفة. وفي ظل هذه الأجواء فإن وزارة الصحة لم تكن استثناء البته، بل انها في حالات معينة وفي إدارات محددة كانت أكثر فساداً. والملاحظ ان وزارة الصحة قد حدث فيها تغيير وزاري قبل غيرها من الوزارات إذ تعاقبت على الوزارة منذ نيل الاستقلال في 1971 حتى يومنا هذا خمسة وزراء مقارنة بوزارة الداخلية (تغيير واحد أو تغييران وزاريان). وهذا يؤكد أن الفساد في وزارة الصحة يتوارثونه جيلاً عن جيل ووزيراً عن وزير ومسئولاً عن مسئول (مع تفاوت درجة الفساد أو مدى مسئولية وزير ما عن حالات الفساد). وإذا حدث وجاء أحد الوزراء غير الفاسدين الى الوزارة فإنه إما ان يقف عاجزا عن محاربة الفساد في وزارته بعد بعض المحاولات أو أنه لا يحاول ولا يسعى الى الدخول في مواجهة الفساد والفاسدين في الوزارة حفاظا على كرسيه. وان بعض الوزراء في الصحة للاسف الشديد ابقوا الكثير من ملفات الفساد في أدراجهم واحكموا قفلها خوفا من العواقب الوخيمة من فتح ملف واحد للفساد، وهؤلاء الوزراء وان كانوا نظاف الايدي الا انهم شاركوا بشكل أو بآخر في تسهيل الأمر للفاسدين والتغطية عليهم خوفا منهم وخوفاً من دوائر المفسدين والفاسدين في الدولة الذين بامكانهم الاطاحة بهم وبكرسي الوزارة الذين حرصوا على التشبث به طويلاً. وهكذا فقد ترعرع الفساد في وزارة الصحة وفي إدارتها وفي اقسامها المختلفة وكون مراكز قوى تتصارع بين بعضها بعضاً احيانا إلا انها ترتبط بوشاح «العروة الوثقى للمؤلفة جيوبهم» حتى جاء المشروع الاصلاحي لجلالة الملك الذي اطلق العنان لقوى الخير قوى محاربة الفساد القوى المقموعة ردحاً من الزمن لتتصدى للفساد بشكل عفوي وجنيني في البداية. إلا أن هذا الشكل الأولي للتصدي للفساد بدا يتطور الى شكل مؤسساتي أكثر فاعليه من خلال البرلمان ومن خلال ديوان الرقابة ومجلس المناقصات، وبالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني والاحزاب السياسية. لذلك فإن على المجلس النيابي ان يبحث في السبل الكفيلة للتصدي لحالات الفساد المختلفة في وزارة الصحة العامة ليس فقد في قسم الطوارئ بل في كل الاقسام والإدارات. ولابد من التحقق من التقارير التي وردت عن حالات من الفساد المالي والإداري والاخلاقي ووضع وزيرة الصحة امام مسئولياتها الجسام. فاما ان تكون أهلا لها أو ان تترجل عن صهوة جواد ربما هي ليس فارسها حتى تثبت العكس. * كاتب بحرين
العدد 1234 - السبت 21 يناير 2006م الموافق 21 ذي الحجة 1426هـ